كتب-محمود مسلم
محلل سياسي
خلال الصراع العربي الإسرائيلي الذي استمر لعقود ، تم استخدام العديد من الجواسيس من كلا الجانبين ، ومن المعروف أن أحد أشهر الجواسيس الذين استخدمهم جهاز المخابرات المصري ، وزرعهم داخل الكيان الصهيوني كان العميل المشهور رفعت الجمال المشهور باسم “رأفت الهجان”.
وبالمثل نجد العميل عمرو طلبة ، الذي تجسدت شخصيته من خلال المسلسل التلفزيوني الشهير “العميل 1001” ، وهناك أيضا العميل الشهير أحمد الهوان والمعروف باسم “جمعة الشوان”. الذي جندته المخابرات الإسرائيلية ، لكن المخابرات المصرية كانت سريعة في التعامل معه ، وفي ذلك الوقت جعلته عميلًا مزدوجًا ، حيث تم تضليل الموساد من قبل المخابرات المصرية، ومن خلاله حصلت مصر على أحدث اجهزة التجسس في العالم في ذلك الوقت.
من ناحية أخرى ، استخدمت وكالة الموساد الإسرائيلية عددًا كبيرًا من الجواسيس العرب وجندتهم من أجلها ، وقد نتذكر الجاسوسة الشهير “هبة سليم” الذي جُسدت شخصيته في فيلم “الصعود إلى الهاوية” والموساد قام بتجنيد فلسطيني مصري الجنسية كان يُدعى “إبراهيم شاهين” ، وعمل جاسوسًا لإسرائيل ، وقام على عجل بتجنيد زوجته المصرية “إنشراح علي مرسي” للعمل معه. الغريب أن هذه الزوجة ، التي سقطت في مستنقع التجسس ، جندت أطفالها الثلاثة للعمل كجواسيس معها ومع زوجها الفلسطيني.
تبدأ قصة “انشراح علي مرسي” ورحلة سقوطها في مستنقع التجسس عام 1951 ، بعد حصولها على شهادة المدرسة الإعدادية ، وأراد والدها أن يكافئها على نجاحها فأخذها معه لحضور زفاف أحد أقاربه في القاهرة ، وكانت هذه المرة الأولى التي تغادر فيها قريتها في المنيا بصعيد مصر.
في حفل الزفاف ، نجحت هذه الفتاة ، التي لم تكمل عامها الخامس عشر ، على الرغم من بساطتها وحالة عائلتها ، في لفت انتباه جميع الحاضرين ، بسبب جمالها الرائع وجسدها الممشوق، على الرغم من صغر سنها.
ويومها التقت “إنشراح علي مرسي” فتاها الذي حرك فيها مشاعر الأنثى الكامنة، إنه “إبراهيم سعيد شاهين” الفلسطيني الأصل المصري الجنسية والمقيم بمدينة العريش، والذي لم يغادر الحفل يومها إلا وقد عرف عنها كل شيء، وبعد مرور أيام معدودة اصطحب ابراهيم أهله معه، وسافر إلى بلدة إنشراح لخطبتها والزواج منها، وهو ما تم بالفعل رغم اعتراض والدتها على الزواج في البداية بحجة بعد المسافة بين المنيا والعريش.
وهكذا تزوجت انشراح ، تلك الفتاة الصغيرة ، التي لم تكمل الخامسة عشرة من عمرها ، وغادرت بلدتها الصغيرة وانتقلت للعيش مع زوجها إبراهيم ، الذي كان يعمل كاتب حسابات في مكتب مديرية العمل في العريش وبسبب المسافة بين المنيا والعريش كادت علاقتها مع عائلتها تنقطع.
تمر الأيام والأشهر والسنوات بالزوجان السعيدان “إبراهيم وإنشراح” ، ويزداد فرحهما مع وصول ابنهما الأول نبيل عام 1955 ، ووصول ابنهما الثاني محمد عام 1956 ، ثم وصولهما. الابن الثالث عادل 1958 وتعهد الزوجان بإرسال أولادهما للدراسة في القاهرة حيث الوضع أفضل من العريش من كل الجهات. وبالفعل ، أرسل إبراهيم أبناؤه لعمهم المقيم في القاهرة ، للدراسة هناك بعيدًا عن مظاهر القبلية و البداوة وظروف الحياة الأقل حظًا في العريش.
في أكتوبر 1966 ، تم القبض على إبراهيم أثناء تلقيه رشوة ، وبعد محاكمة سريعة حُكم عليه بالسجن وقضى 3 أشهر خلف القضبان. عانت زوجته بشدة خلال هذه الأشهر الثلاثة ماليا ومعنويا. بعد انقضاء الأشهر الثلاثة ، خرج إبراهيم ليعاني مما جلبه على نفسه وبدأ في رؤية أحلامه وآماله في التقدم والثروة تتحطم تحطمت أمام عينيه تقريبًا ولم يتمكن من التمثيل.
وما زاد الطين بلة والمرارة علقما هوما حدث في يوم 5 يونيو سنة 1967، حيث اجتاحت القوات الاسرائيلية سيناء واحتلتها، وهو ما أدى إلى غلق جميع الأبواب أمام الزوج إبراهيم، حيث أصبح عاطلا عن العمل بعد الاحتلال الإسرائيلي لسيناء بسبب توقف العمل بمكتب مديرية العمل بالعريش، وأصبح غير قادر على كسب مال يتعيش منه هو وزوجته، أو يرسل منه لتعليم أولاده بالقاهرة، كما أن طريق العريش القاهرة قد أغلق، وأصبحت العريش كلها تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، مما كان سببا في عدم مقدرته على السفر للاطمئنان على أولاده بالقاهرة.
وهكذا كان تأثير الاحتلال الإسرائيلي في سيناء بمثابة صاعقة على رؤوس جميع أهلها ، حيث خنقوا أرواحهم وضيقت عليهم أرضهم المحتلة على الرغم من توسعها ، مثلما ضيّقهم الاحتلال على كل جانب من جوانب الحياة والنقل.
في خضم هذا المناخ ، كانت المخابرات الإسرائيلية تعمل بنشاط مفرط ، وكانت تسعى لمطاردة العملاء بسبب ضغوط المعيشة الصعبة وظروف الاحتلال ، ونجحت بالفعل في جذب زوج إبراهيم.
وافق إبراهيم على التعاون مع الإسرائيليين في جمع المعلومات عن مصر، وتسلم – كدفعة أولى – ألف دولار في الوقت الذي لم يكن يملك فيه ثمن علبة سجائر.
بعد تجنيده تم إخضاعه لدورة تدريبية تعلم خلالها كيفية كتابة الرسائل.بالحبر السري ، وكذلك كيفية جمع المعلومات دون إثارة الشك والريبة ، وتدريبه على نشر الشائعات بين الناس وإطلاق النكات تهكمًا على قادة الجيش المصري، ثم وبعدها عاد إلى زوجته فرحا محملا بالأموال والهدايا، وحينما سألته عن مصدر هذه الأموال الكثيرة التي أتاها بها أخبرها بأنه قد دل الإسرائيليين عن مخبإ فدائي مصري فكافئوه بإعطائه 1000 دولار، كما وعدوه بمنحه تصريحا لزيارة أولاده بالقاهرة، فأبدت إنشراح فرحتها وقالت له: “حسنا فعلت، فلو لم تدلهم أنت عليه لفعل ذلك غيرك وأخذ هو الألف دولار”.
فسألها في خبث ألا يعد ذلك خيانة ؟ فغرت فاها وأجابته: مستحيل ، كان غيرك سيبلغ عنه ويأخذ الألف دولار، أنت ما فعلت إلا الصح.
حينها استغل إبراهيم الفرصة وقال لزوجته إنشراح إن الإسرائيليين طلبوا منه أن يوافيهم ببعض المعلومات البسيطة مقابل 200 دولار عن الخطاب الواحد، ولحظتها أصيبت بالدهشة وسكتت قليلا ثم قالت لزوجها: “بعدما تكتب لهم الخطابات يجب أن تطلعني عليها لمراجعتها حتى أراجعها ولا نتعرض للخطر”، وهكذا وافقت إنشراح على تعاون زوجها إبراهيم شاهين مع الإسرائيليين وهي لا تعلم أنها بدأت معه رحلة السقوط في مستنقع كريه لا مخرج منه أبدا.وفي يوم 19 نوفمبر سنة 1967 وبواسطة هيئة الصليب الأحمر الدولي وصل إلى القاهرة كل من إبراهيم سعيد شاهين وزوجته إنشراح علي مرسي لزيارة أولادهما الثلاثة والاطمئنان عليهم.
تم إلحاق إبراهيم بعمله الإداري من جديد، كما قامت محافظة القاهرة بمنح الأسرة سكنا مجانيا مؤقتا في حي المطرية باعتبارهم من المهجرين، ولكن بعد فترة قصيرة قرر إبراهيم شاهين تغيير محل إقامته من حي المطرية إلى حي الأميرية، ولكي يغطي على عمله في التجسس لصالح جهاز الموساد فقد اتجه إبراهيم إلى العمل في التجارة في الأدوات الكهربائية والملابس الجاهزة.
ومن خلال احتكاكه بزملائه في العمل الحكومي وجيرانه في السكن وزبائنه المترددين عليه، بدأ إبراهيم شاهين يجمع المعلومات التي طلبها منه جهاز الموساد، وكانت زوجته إنشراح تعاونه بكل ما أوتيت من همة ونشاط في جلب المعلومات، كما أنها كانت تعاونه في تنسيقها وصياغتها وكتابتها قبل إرسالها إلى رجال جهاز الموساد في روما.
ولانشغاله بجمع المعلومات فقد كان إبراهيم شاهين يتغيب عن عمله كثيرا، ولكن كان رؤساؤه وزملاؤه كثيرا ما يغضون الطرف عن هذه الغيابات الكثيرة بسبب هداياه التي كان يغرقهم بها، وهكذا تفرغ إبراهيم أكثر وأكثر لمهمة جمع المعلومات، وتواصلت رسائله إلى رجال جهاز الموساد بروما، تحمل إليهم المعلومات والأخبار التي كان يتحصل عليها الزوجان، وكان إبراهيم شاهين حريصا على أن يذكر كيفية معاونة زوجته إنشراح له في جمع المعلومات وكتابتها وإرسالها لرجال الموساد في جميع خطاباته التي كان يرسلها للموساد.
ونتيجة لهذا فقد استدعى جهاز الموساد الزوجين لاستغلالهما معا في مهام أكثر أهمية، وبالفعل في شهر أغسطس سنة 1968، وتحت ستار السفر من أجل التجارة، أبحر الزوجان إلى لبنان ومنها سافرا إلى روما، ومن هناك انتقلا إلى إسرائيل بوثيقتي سفر إسرائيليتين، باسم السيد موسى عمر وزوجته السيدة دينا عمر، حيث تم استقبالهما هناك بترحاب وحفاوة كبيرين، وتم معاملة الزوجين الجاسوسين إبراهيم وإنشراح معاملة كبار الزوار.
وهناك في إسرائيل حصل الزوجان إبراهيم وانشراح على دورة تدريبية مكثفة في مختلف أعمال الجاسوسية، واجتازاها بنجاح وتفوق كبير أذهل رجال جهاز الموساد، مما جعل إنشراح تتمادى في طلباتها المادية من رجال الموساد، حيث طالبت بضرورة زيادة المكافآت المخصصة لزوجها بالإضافة لتخصيص مكافأة أخرى لها شخصيا، وذلك لأنها تعمل معه يدا بيد، أي أنهما اثنان وليسا واحدا فقط، وبعد ذلك تم منح الزوج إبراهيم شاهين رتبة عقيد في الجيش الإسرائيلي باسم “موسى عمر”، بينما منحت زوجته إنشراح علي مرسي رتبة ملازم أول في الجيش الإسرائيلي باسم “دينا عمر”.
وهكذا انهالت عليهما الأموال مع الوعد من رجال الموساد بزيادتها لهما أكثر وأكثر كلما تقدما في عملهما التجسسي، وبالفعل توسع الزوجان إبراهيم وإنشراح في عقد صداقات جديدة، حيث استغلا وجودهما في حي الأميرية المزدحم في عقد هذه الصداقات مع ذوي المراكز الحساسة من سكان الحي، بل وقاما بدعوة بعض العسكريين من أصدقائهما إلى منزلهما، حيث اعتادت إنشراح مجالستهم في سهرات صاخبة معبقة برائحة الدخان الأزرق، وبينما كانت تسقيهم كؤوس الخمر كانت تستقي منهم المعلومات والأسرار، والتي كانت ترسلها هي وزوجها إلى رجال الموساد بروما.
قاما العميلان الخائنان بما لم يفعله جاسوس في العالم كله، حيث جندا أولادهما الثلاثة نبيل ومحمد وعادل للعمل معهما في جمع المعلومات.
و كان لهما دورا كبيرا في حرب الاستنزاف حيث قاما بتصوير المنئات و المصانع الحربية و ارسالها الي اسرائيل.
وتمر الأيام والشهور على عائلة الجواسيس وهم يعملون بكل جد واجتهاد وإخلاص في جمع المعلومات وإرسالها في خطابات مشفرة لرجال الموساد في روما حتى وقعت الواقعة.
فقد قام الجيش المصري بعبور قناة السويس يوم 6 أكتوبر سنة 1973، كما حطم خط بارليف الحصين، وحطم معه أسطورة العدو الذي لا يقهر، وانتصرت مصر على إسرائيل في مفاجأة لم يتوقعها أحد لا في مصر ولا في إسرائيل، وبهذا النصر أكدت مصر تفوقها الى إسرائيل عسكريا ومخابراتيا، لدرجة أن إسرائيل بعد الحرب قد غيرت قيادات جهاز الموساد.
”صائد الموجات” هذا هو الذي التقط ذبذبات جهاز الإرسال اللاسلكي وهم يحاولون إرسال الرسالة لرجال الموساد.
ووقتها قامت المخابرات المصرية بتمشيط المنطقة كلها، ومع تكرار محاولات إبراهيم شاهين إرسال الرسالة لرجال جهاز الموساد _بسبب عطل مفتاح التشغيل_ أمكن تحديد مكانه، ووضع منزلهم تحت المراقبة. منذ ذلك اليوم.
وبينما كانت انشراح في إسرائيل، وتحديدا في يوم 5 أغسطس 1974، كان رجال المخابرات المصرية يقتحمون منزل الجواسيس ويلقون القبض على إبراهيم شاهين، الذي وبمجرد أن شاهد رجال المخابرات المصرية أصابته حالة هستيرية وأخذ يردد في هلع: “أنا غلطان، أنا ندمان، الجوع كان السبب، النكسة كانت السبب، اليهود جوعوني واشتروني بالدقيق والشاي والسكر”، وقام رجال المخابرات المصرية وقتها بتفتيش المنزل فعثروا على جهاز الإرسال اللاسلكي، وعلى نوتة الشفرة التي كان يستخدمها الجواسيس، وتم القبض على الجاسوس إبراهيم شاهين وولده الأكبر نبيل، وبقي بعض رجال المخابرات المصرية داخل المنزل بصحبة الولدين الصغيرين محمد وعادل انتظارا لوصول أمهما انشراح من إسرائيل.
وبينما انهار الجاسوس إبراهيم شاهين لحظة القبض عليه، كانت زوجته انشراح علي مرسي في غاية الصلابة وكانت متماسكة وقت التحقيق معها، بل وادعت الإنكار طويلا، ولم تقر أبدا بأنها تعمل مع جهاز الموساد، ولكنها انهارت وبدأ سيل اعترافاتها ينهمر حين فوجئت برجل المخابرات المصرية المكلف بالتحقيق معها يسألها سؤالا هز كيانها: “ماذا فعلت؟ وكيف قضيت ليلة كذا وليلة كذا مع الرائد إبراهام شمعون في إسرائيل؟”.
وقتها فقط أدركت انشراح أنه لا مفر من الاعتراف، حيث أدركت أن المخابرات المصرية قد عرفت عنها أدق التفاصيل، حتى لياليها الماجنة التي قضتها برفقة “أبو يعقوب”، فقد كان الرائد إبراهام شمعون الذي سألها عنه رجال المخابرات المصرية هو نفسه “أبو يعقوب”.
وفي يوم 5 أكتوبر 1974 نشرت الجرائد المصرية خبر القبض على عائلة الجواسيس، وتم تقديم العائلة لمحاكمة عاجلة، وفي يوم 25 نوفمبر 1974صدر الحكم بإعدام كل من الجاسوس “إبراهيم شاهين” وزوجته الجاسوسة “انشراح علي مرسي” بعد ثبوت تهمة الخيانة العظمى عليهما بتجسسهما على مصر لصالح إسرائيل، كما تم الحكم على الابن الأكبر نبيل بالسجن 5 سنوات مع الأشغال الشاقة، وبإيداع الصغيرين محمد وعادل دار الأحداث.
ورغم أن الجميع قد تهيأوا لاستقبال خبر تنفيذ حكم إعدام الجاسوس إبراهيم وزوجته انشراح،الا انه حدثت مفاجأة قلبت كل الموازين و هذا ما سنعرفه في المقال القادم بإذن الله.
المصادر:
كتاب”أشهر وأخطر الجواسيس عبر العصور” محمود عبد الله.
كتاب”كل شيء هادئ في تل أبيب” حسني أبو اليزيد.
برنامج النادي الدولي، حوار سمير صبري مع الجاسوسة.
كتاب”جواسيس الموساد العرب” فريد الفالوجي.
قناة “رافائيل بن ديفيد” ابن الجاسوسة “انشراح”