إن أكثر مايخشاه الآباء أصحاب الوعي الناضج على أطفالهم عندما يخرجونهم لمعترك الحياة ، هو أول صديق سيختارونه بإرادتهم ، فهؤلاء الآباء يعلمون جيداً مدى تأثير هذا الصديق على فلذات أكبادهم لأنهم ببساطة “إختيار دون وصاية” ..
على طول الطريق اختيارتنا دائماً ترضينا ، مهما كانت أعمارنا ، ومهما كانت العواقب والتحذيرات ..
فيكون دائماً للصديق المختار دور الساحر في حياة صديقه ، بل يستطيع المختار أن يبدل ويمحو الصديق من شخصية صديقه في لمح البصر كل الثوابت التي نشأ عليها في منزل الوالدين ..
لنطرح بعض الأسئلة إذا:-
س١ ماذا إن اعتقدنا في معلم قدوة وأعجبنا به .. و كان له خلفيته الدينية البحته ، وبدأنا نتلقى منه العلوم ونتحاور معه وبدأ في فتح أفاقنا ؟
ج١ من الوارد جدا بعد أن نقتنع به وبالأراء الخاصة به والبيئة التي يدعونا إليها أن نصبح صورة مصغرة منه ثوابته ثوابتنا ، و متناقضته متناقضتنا .. ومرفوضاته مرفوضاتنا، بل ونبحث عن مايحبه أكثر ومقتنع به لكي نقتنع به نحن أيضاً ونحبه بكل رضا !!! ..
س٢: ماذا إن كان العكس كان معلمنا وقدوتنا شخص له خلفيته العلمية البحتة ؟!
ج٢: نفس الشئ وارد أن نصبح صورة مصغرة منه ومن معتقداته الخ ..
“إنني لا أعيب أن يتأثر شخص بأخر .. إنني أعيب أن يتقمص شخص شخصية أخر لفرط الإعجاب والاختلاف” .
إذا متى نختلف مع هؤلاء الأشخاص الذين هم قدوتنا ؟
ربما ستختلف معهم بعد تشكيل وعي انفصالي عندنا .. عندما نتعمق في الحياة و في البحث ، ونبدأ في محاورتهم لكي نرى هل سنجد ماورد في داخلنا هو نفس نظرتهم ومعتقدهم ويجول بداخلهم مثلنا ..
وهنا الصدمة تأتي ! أما أن نقتنع بكل “استسلام عقلي ” مع أن القلب يرفض لقوة سيطرة معتقد المعلم القدوة علينا وماله من سبق في زراعة غلال تفكيرنا ! ..
وأما أن نضطرب فنتناقش ، وربما يتطور الأمر إلى جدال ..
لكن المجادلة لن تكون فيما تلقيناه منهم في البداية والثوابت التي زرعوها في رؤسنا بإرادتنا .. بل ستكون على الوافد المعلوماتي الجديد الذي تبينا فيه بأنفسنا دون إملاء من المعلم القدوة ..
إذا فمتى نختلف مع القدوة اختلاف حقيقي فيما تأثرنا به منه ونشأنا عليه ، ونمت بداخله عقولنا وأفكارنا المكتسبة و المختلفة في الأصل عن بيئتنا ؟
أجد ذلك صعب جدا وشديد الإرهاق..
صعباً لأننا نريد أن نقتلع جذور أشجار عملاقة من قرار العقل ، وشديد الإرهاق لأننا عندما تأثرنا بالمعلم القدوة في البداية كان ذلك اختيارنا وبرغبة ملحة من داخلنا ..،
وكان ذلك أيضا نتاج لرؤيتنا أن ذلك القدوة هو شخص مختلف يستحق التقدير والأخذ عنه دون تفكير ، وبسبب شعورنا تجاه البيئة المحيطة التي نشأنا فيها أنها ساذجة ، فعندما يريد الشخص أن ينفذ خارج البيئة..،
والمعتقدات التي نشأ عليها يبحث دائما عن من يأخذ بيده ويظل مدين له ..
ولكن هل لايوجد تلميذ نادر أصبح حراً بما يكفي لكي يختلف مع قدوته ويكسر حاجز الصعوبة تلك ؟
نعم يوجد بنسبة قليلة ولكن ماذا يحتاج ذلك التلميذ النادر لكي يختلف مع المعلم القدوة ؟
هل يحتاج عقل ؟ هل يحتاج آفاق واسعة ، هل يحتاج شخص خارق جديد يحل محل المعلم القديم له عقل مختلف وآفاق أوسع من سابقه ؟
كلا لقد أصبح التلميذ حُراً ويريد أن يظل حر ، إنه يحتاج فقط إلى “فطرة سليمة” و”صدق مع النفس” الذي عاش طيلة العمر يعتقد أنه يدعو إليهم وينكرهم على الأغيار في الثقافة من نفس بيئته .
إن الفطرة السليمة هي أساس المرونة وليس زخم المعلومات وثراء الفكر والفلسفة المتفردة المتمردة .. فهذا عالم ذرة ويعبد بقرة .. هو له مطلق الحرية في ذلك ولكن نأخذ مثال فقط لنحصل على التشبيه المتوافق ..
لنأتي إلى العالم العظيم “سيجموند فرويد” رجلا أحدث انقلاباً فكرياً بمعنى الكلمة ، أحدث تغييرا جذرياً في أفكارنا .. من يستطيع أن يجابه فرويد ، وأبحاثة ونظرياته التي هي مرجع عميق ، وقواعد متينه يُبنى عليها في علم النفس، ويتم العودة إليها من حين لآخر ..
بل يجب أن تدرس ماقاله فرويد أولا وبعناية لكي تستطيع النفاذ داخل العمق الإنساني .. فمن يستطيع إذا أن يختلف مع فرويد ؟!
ولا أقول أن نختلف معه في نظرياته العلمية لا أستطيع ، ولكن وجهة النظر الخاصة به التي أراد فرضها ، وتمريرها بدهاء داخل نظرياته العلمية ؟
دعونا نسئل سؤال لماذا يتطرق فرويد للدين ويريد أن يحل العلم محله ؟؟
أليس أولى أن يدع العلم يأخذ مجراه وينتصر من تلقاء نفسه لنفسه ويثبت حجته لكي يكون أرضية صلبة ، دون المصادمة مع المتدنين طالما أنه مقتنع بنظرياته ، ولا يرى أي مشاكل في العلم سوى أنه بطىء في إثبات نظرياته وإجاباته .. على عكس الدين الذي يقدم إجابات سهلة وسريعة ..
لن نشكك في أقوال فوريد ونقول لأن هذا الدين من عند الله ، وهذه العلوم من عند البشر ونقوم بالفصل ؟
لو قلنا مثلما يقول هؤلاء المتدينين لكنا أصحاب توجه خاص ديني بحت ..
ولو قولنا مثل فرويد والعلمانيين لكنا أصحاب توجه علمي بحت ..
ولكن المفارقة أنك تجد أن أصحاب الدين يستنجدون بالعلم لإثبات صحة الدين !!! وهل الدين يحتاج لذلك أي إغفال هذا !!!!!!
وتجد أن أصحاب العلم يقفوا حائرون بما لديهم من علوم أمام طبيعة النفس البشرية ، وتجد زلات لسانهم تناجي الله تماماً كما فعل فرويد وهو يقول:
(الذين يعيشون في أوهام إذا لم تنقذهم
“”العناية الإلهية “” !!!
من أوهامهم ينحدر بهم الطريق الى الجريمة والجنون )..
فرويد ينتصر للعلم فقط ويروج له ثم يعود ليستنجد بالعناية الإلهية ؟؟!!!!
وتظل عدة أسئلة مطروحة ومعلقة!
س١: لماذا نفصل العلم عن الدين ، ونفصل الدين عن العلم ؟
س٢:لماذا نجتزء الفلسفة من قلب التدبر ؟
لماذا المتدين يكتفي بالدين فقط ولايعزز ثقافته كما أمره الله بالتفكر والتدبر ؟
س٣: بما أن رسالة الله لا تنفصل عن المرجعيات، وصمود الآية ، وتلقائيتها، وليونتها هي معايير إلهية بديعة ، تجبر صيرورة الحياة على الطواعية ..
فلماذا يخشى المتدين الانغماس في ثقافة المادة ؟ هل ينقصه التوكل مثلاً أم غير ذلك ؟
……………….
س٤: هل يريد الفكر العلماني تجديد فكر حاملي رسالة السماء .. أم رسالة السماء نفسها ؟
س٥: لماذا العلماني عند إظهار الخلل في ثقافته يعود ليضرب من خلفيته الدينية أي كان هذا الدين ؟ هل ينقصه الثقة مثلاً أم غير ذلك ؟
تستطيع عزيزي القارئ أن تختلف معي كل الاختلاف فيما كتبت .. ولكن أرجوك لا تجعل اختلافك انتصارا لثوابتك سواء للدين فقط أو للعلم فقط .. فلا أنا ولا أنت من نحمي الحمى .. فلا داعي للتطوع كأي ساذج لتغيير حياة الناس ، ووضع الأفكار والتقنيات لحل مشاكلهم .. فأنا في اختلاف مع الأخر لكن لست على خلاف معه ، ولست ضده فلماذا يمقت المتناقشون بعضهم البعض ويتحول بعضهم إلى متربصون ؟!!! ..
ولكن دعنا نحك باطن عقولنا قليلاً.. بأظافر الوعي كي نحل مشاكل أنفسنا ، وإن لم نستطع حتى الممات فتكفينا شرفاً المحاولات .
كتب أحمد البياسي.