تقديم د. سيد غيث .
الحُب في زمن الحرب..!!
هي دعوة للرقص..
على حافة الجرح..!
وسرقة القليل من نافذة
الوقت..
يوماً أو بعض يوم
لأقول: لك..
أحبك على طريقتي..
قبل أن يغفو النهار
في حضن القلق..
قبل أن يسيل الليل كحلاً من عين الخوف
أحبك بطول هذه البلاد..
سرب فراش يعرج إلى السماء
ويعود محملاً بالنور..
بعرض الحلم الذي
تنثره الوردات في طريق الريح
فتغني وأرقص أنا..
أرقص لك وحدك..
بقدمين لطالما قيدتا المسافة بالاقتراب
وجهي قمر يفج الأسود
يتساقط موجاً على الكتفين
وأرقص لك..
وأصهل شعراً
كل النجوم..
قصائد عشق..
تسافر مني إليك..!!
من رحم المعاناة والحرب الدامية تولد القصيدة، كامرأة تقف وسط الرماد ترتدي فستان الضوء، وترقص على حافة الجرح، وهي ترسم بكلماتها بديلاً للخراب لتُرمم ذاتها المحطّمة بالحب، وتمنح الجمال شكلاً من أشكال في زمن الحرب.
ومن هنا ندلف إلى مدخل القصد في القصيدة ، ونسعى إلى تحليل البنية النصّية للقصيدة، واستجلاء ملامحها الأسلوبية والدلالية والسياقية، انطلاقًا من الرؤية الجمالية التي تنسجها الشاعرة، ووصولاً إلى عمق المأساة التي تُعيد القصيدة تشكيلها بحبر العاطفة ودم الذاكرة والذكريات .
( الحب في زمن الحرب ).. تنطلق هذه القصيدة الماتعة من مفارقة ثنائية مأساوية وهي مفارقة تشكّل بؤرة توتر مركزية بين العاطفة الإنسانية
السامية، والواقع الكارثي للعنف والدمار. هذه الثنائية تضع القارئ في مواجهة سؤال جوهري: كيف يحيا الحب وسط الخراب؟ وهل يمكن للأنوثة أن تُزهر في بيئةٍ تتساقط فيها الأرواح كما تتساقط الزهور الذابلة..؟
والقصيدة في مجملها ترفض أن يكون الحب ضحية للحرب، بل تطرحه كبديل وجودي وكسلاح ناعم في وجه الفوضى التي خلفتها الحروب المميتة .!
في مشهد فلوموغرافي تجسد القصيدة معاناة امرأة تتشبث بالحياة والحب، رغم الدمار المحيط بها، فتصير اللغة رقصة مقاومة، يتجلى فيها الانتماء، والتمرد والأمل لغد تنتهي فيه الحروب ويحــــل مكانه
الحب الذي يطفىء نيران الحرب.
سيميائية العنوان في قصيدة ( الحب في زمن الحرب) :
يحاكي العنوان بناءً شبيهاً بعنوان رواية “الحب في زمن الكوليرا” لغابرييل غارسيا ماركيز، ولكن بدلًا من المرض البيولوجي، نواجه في هذا النص الماتع المرض السياسي والمجتمعي
الممثل في هذه الحرب الدامية .
البنية الموضوعية للقصيدة والمضامين:
القصيدة هي دعوةٌ للرقصِ على حافةِ الجرحِ الأليم .. تفتتح: الشاعرة النص بدعوة غير تقليدية، تمزج الرقص بالوجع في محاولة لتحويل الألم إلى طقس جمالي، والجرح إلى منصة للبوح. الرقص هنا ليس طقسًا ترفيهيًا، بل رمزٌ للمقاومة الناعمة، للتمسك بالحب، بالحياة، بالأنوثة..!
زمن الحرب والقلق الوجودي:
” قبلَ أنْ يغفوَ النَّهارُ في حِضنِ القَلق / قبلَ أنْ يسيلَ الَّليلُ كُحْلاً مِن عينِ الخوفِ. ”
تصوّر لنا الشاعرة وترسم قصيدتها بالكلمات رغم الوجع صورة وجودية للحصار النفسي الذي تعيشه في قصيدتها حيث يتحوّل النهار وهو رمز للأمل إلى كائن يغفو في حضن القلق، بينما الليل يسيل ككحل من عين الخوف.. وهنا يتجلى التشخيص المكثف للطبيعة وتحوير الزمان إلى ذاتٍ خائفة مضطربة من ويلات الحرب.
الأنوثة والاحتفاء بالجسد:
“وجهي قمرٌ يفِجُّ الأسودَ / يسَّاقَطُ موجاً على الكتِفينِ”
الجسد الأنثوي هنا يتحوّل إلى كيانٍ كونيّ مضيء، يكشف الظلمة ويقاومها. تستثمر الشاعرة مفردات الضوء (قمر، كحل، فراش النور) لخلق فضاء رمزيّ يحتفي بالأنوثة، ويجعلها بديلاً عن الرعب والدموية.
التماهي بين الذات والوطن:
“أحبكَ بطولِ هذه البلادِ” تقول الشاعرة ( أريج محمد )
وهنا يظهر لنا التماهي والانصهار بين الذات والوطن .. وهنا لا تقتصر القصيدة على البعد الرومانسي، بل تُذيب الحب في حب الوطن الحبيب يُصبح رمزًا أكبر، قد يمثل “البلد أو الحلم أو الحرية” وهذا الاتساع الرمزي يكثّف أبعاد هذه القصيدة التي كتبت بماء العيون ودماء الروح .
البنية الفنية والأسلوبية للنص:
نلاحظ في هذا النص اعتماد الشاعر( أريج) على أسلوب رقيق، مليء بالصُّور الناعمة، والتشبيهات الرمزية، ولكن خلف هذا الهدوء اللغوي، تنبض قصيدة احتجاجٍ داخلي صامت وقوي على أوضاع البلاد في زمن الحرب الضارية .
والقصيدة ليست فقط عن الحب أو المرأة. إنها نصّ سياسي بلغة ناعمة، نصّ يقول للمتلقى : يمكننا أن نحبّ رغم الجراح.
ويمكن للمرأة أن تكون سيدة المعنى رغم الحرب.
ويمكن للشعر أيضاً أن يكون سلاحًا بديلًا عن الرصاص.
إنها قصيدة للمقاومة ناعمة – ورفض راقٍ للخراب الذي يحاول تحويل الإنسان إلى مجرد “رقم” من الوفيات التي خلفتها الحرب في نشرات الأخبار اليومية.
التراكيب والصور الشعرية في قصيدة ( الحب في زمن الحرب ) ..
من كلمات القصيدة المبتكرة ..الرقص على حافة الجرح: إستعارة مبتكرة تجمع بين الجمال والخطر.
الليل يسيل كُحلاً: انزياح لغوي بديع، يحوّل الليل إلى مستحضر أنثوي، يندمج مع “الخوف. ”
ومن قولها أيضاً: سرب فراشٍ يعرج إلى السماء: صـــورة ذات بُعد صوفي/رمزي، حيث يمثل الفراش الروح أو الأمل، أو الحلم المتسامي.
..”أحبك بطول هذه البلاد”ومن قولها:
الحبيب هنا يساوي الوطن .. والحب يساوي أيضاً انتماء وهوية وطنية .
“بطول هذه البلاد” تعني أن الحب ليس فقط لحبيب شخصي، بل لبلدٍ يعاني وامرأة تصرخ باسم بلدها عبر خطاب العاطفة..!
الحرب السودانية هنا تُعيد تشكيل اليوم الواحد إلى تجربة متقطعة من القلق والرعب الذي ينتاب الشاعرة طوال وقت هــذه القصيدة التي شحنت بداخلنا مشاعـــر الحـــب في زمن القصــف والعصف الوجداني .
الإيقاع الداخلي للنص :
برغم أن النص نثري، إلا أنه يمتاز بإيقاع داخلي يتولد من
التكرار المعنوي الذي أفاد القصيدة مثل: (أرقص، أحبك).
ومن هنا نقف على ناصية لغة النص.. إستخدمت الشاعرة الرمزية الانزياحية الحافلة بالمجاز والتشخيص، لتنقل لنا التجربة الشعورية بشكل إيحائي تعبيري منبعث عن شعور الأنثى في زمن الحرب.
الجمال بوصفه بديلاً عن العنف في القصيدة:
تحاول الشاعرة عبر مفرداتها مثل ( الرقص، الضوء، الورد، القمر الفراش، النور).
لتقول لنا بأننا قادرين على إعادة بناء عالم جمالي موازي.
فالمرأة الشاعرة بوصفها ذات شاهدة ومنفعلة في السياقات التقليدية يُرسَم دور المرأة في زمن الحرب كضحية أو باكية، ولكن الشاعرة هنا ترفض هذا القالب.
فهي تأخذ بزمام الفعل الشعري فتُحبّ، وتُعلن، وترقص، وتكتب .. وبذلك، تُمثّل الشاعرة المرأة السودانية المعاصرة الطالبة بحقها في الحب حتى ولو كان في زمن الحرب ..!
“سربٌ فَراشٍ يعرُجُ إلى السماء ويعودُ محملاً بالنور”ومن قولها في قصيدتها فهذا الفراش الحالم رمزاً للأرواح التي تُحلق وتعود بالكرامة، بالحلم.
فالقصيدة هنا لا تنفي الحرب، لكنها تُصرّ على أن الجمـــال ممكن وأن “الحب”
ما هو إلا فعلٌ سياسيّ عميق.. بالتالي، تصير القصيدة بياناً عن كيف نحيا في وطن ميت، وكيف نُحِبّ في مدينــــة تنام على دويّ القصف..!
الرؤية الفكرية والفلسفية للقصيدة:
تطرح الشاعرة سؤالاً وجودياً.. هل نحبّ رغم الحروب؟ هل نرقص على أنقاضنا؟ هل يمكن للحب أن يكون ثورة تغير مجرى الأمور وتتوقف على اثرها الحروب..؟
وهي بهذا تكتب الشعر ليس بوصفه ملاذًا فقط، بل كفعل نجاة ومقاومة وخلقٍ مستمر في وجه الفناء.
السمات الأسلوبية الخاصة بالشاعرة ( أريج):
سمات هذا النص أنثوية واعية وظفت من خلالها الشاعرة الأنوثة كشكل من أشكال الوعي والمواجهة في وجه الدمار والحرب التي تتمنى في قصيدتها أن تتغير مجرياتها لتسكن الآهات.. وألم المجروحين.. وصراخ الاطفال.. وعويل الأمهات .
وقد إستحضرت الشاعرة مفردات الطبيعة: (الورد -الفراش النور- الريح ) لإعادة تشكيل الواقع ليمتزج بين الذات والكل حيث يتحول الجرح الفردي إلى جرح جماعي.
في قصيدة “الحب في زمن الحرب”، تمارس الشاعرة أريج محمد فعل الكتابة كنجاة، والحب كعقيدة، والرقص كلغة في مواجهة البارود.. وهذه القصيدة بوصفها ليست مجرد نصّ عاطفي أو نثري بل كوثيقة وجدانية شديدة النعومة، تضع الأنوثة في وجه القذيفة وتحمل القلب على حدّ السكين وذلك في زمن يتهاوى فيه الوطن وتغيب فيه الشمس عن عيون العاشقين، تكتب الشاعرة من قلب الخراب فتقول:
أنا لا أنزف، أنا أرقص..!
أنا لا أهرب، أنا أحـــب..!
أنا لا أموت، أنا أكتــــب..!
إنها ليست مجرد امرأة تحب، بل وطنٌ صغيرٌ يحتفظُ بآخر شجرة وآخر وردة، وآخر أغنية.
هكذا تصير القصيدة نفسها حبيبةً محتجبة في قميص الحروف ترقص بأقدامٍ دامية، لكنها لا تتراجع.
إنها شهادة حبّ ضد النسيان وخارطة نجاة مكتوبة بالضوء في زمن
الظلام.. كفى حروباً.. ودعوا الحب يكتب السلام ..!!
وأختتم فأقول: إن قصيدة “الحب في زمن الحرب” لأريج محمد هي نص نثري متوهج بالإيحاء والجمال، تحوّل فيه الشاعرة الكارثة إلى طقس من الرقص والبوح وتمنح الحروف وظيفة تطهيرية، تُعيد للمرأة حضورها في زمن يتآكل فيه الأمل وتتحدى الموت بالحياة وتحتفي بالحلم في زمن الحرب والحب ..!!
بقلم: الشاعر والناقد والناشر
د. سيد غيث ..