جزء من قصة ” وحوشنا ووحوشهم”

جزء من قصة ” وحوشنا ووحوشهم”

من مجموعتي القصصية ” أرض وراية”

وحوشنا و وحوشهم

وتساوركِ ضحكات ترتعش بين جنبات الأفق البعيد، كانت هي وكان هو وكان الأفق شاهدا عليهما. لا تستغربي عودتها اللّحظات الحاضرة، تهوين بها في سفح يتهيّب تسلّق جبل الذّكريات، كانت قمّته مرارة، وهاهو يتجرعّكِ اليوم جراحا لم تضمّدها السّنون، حاضركِ يهفو لاستنطاق العشب الأمس، ربما يبس الآن أو التهمته أيادي الدّهر، كما دأبها مع العشب وكلّ ما علا أرضنا الطّيبة. 

بعض الماء غار وابتعلته التّربة الخصبة وغير الخصبة، ولكنّ ذكرياتكِ لم يبتلعها النّسيان، لم يضمّها ظلام الذّاكرة بين جناحيه، بل لفّها ببرنس من نور، وكان قرارها في خطرات النّفوس، وهاهو يرميك بنضارته متوشّحا سرب الحمام، وكان السّرب يجتاز النّهر الرّقراق ، والماء العذب تبهره إطلالة شمس وهّاجة، فيقطف منها أشعّتها الجميلة، لتضيء السّطح والأفق والعشب الأخضر.

كان عشب أرضكِ سامية، وكان ماؤها نهركِ سامية، وكان حمامها، سماؤها، جبالها، سهولها. كنتِ تأنسين بهذا كلّه، وأنتِ تبعثرين خطواتكِ  الطّافحة بمرح الطّفولة والشّباب، تجرين قرب الوادي، تطئين صفحته الصّافية بصورتكِ المنعكسة عليها، فتطمئنّ إليها أسراب الحمام فتحوم حولها وهي تلاعب بريق عينيكِ و وهج الضّياء عند انبلاج الصّبح الجميل.

أهلكِ لم يكونوا أبدا يبحثون عنكِ حتى ميعاد عودتكِ في المساء. الكلّ يعلم ميعاد عودتكِ، والدكِ الفلّاح، وأخوكِ الحدّاد، و والدتك مصلحة الأواني النّحاسيّة. لم يكونوا يقلقون عليكِ، رغم معرفتهم بوجود وحوش في الغابة، لكنّهم كانوا يأمنونها عليكِ.

 وحوش غابتكم كانت وفيّة كريمة، لا تعتدي، تحفظ عهودكم، و ترعى المواثيق.

 ووحوشهم لم تكن تسكن الغابة، لكنّها لم تكن ترع الإنسانيّة، و لم تكن تأبه للأحلام.

كانت تلتهم الحلم و الأمل و البسمات، كانت تهوي بمعاول دناءتها على كلّ ما هو جميل لديكم.

نعم، وحوشهم لم تكن تسكن الغابة، فصدئت قلوبها لأنّها كانت من حديد، لم تكن تعبأ بالعشب الأخضر، بل على العكس، كان يقلقها كل ما هو أخضر، فتقبل بنهم على التهامه بنيران وجنون.

هل من عاقل يمكنه إنكار النّضارة والنّظافة والطّهارة؟

أرضكِ طاهرة سامية، أرضكِ عفيفة سامية، وجهها ناضر وثغرها باسم، اصطلوها بالعبوس، نثروا فيها كوابيسا وظلاما.

أحرقوا غابتكم الجميلة بأشجارها منبسطة الظّلال، أفزعوا الوحوش التي كانت تسكنها، هلك بعضها، والبعض الآخر فر مثلكم إلى الجبال. 

وأنتِ الآن في سفوح الذّكرى تأبين تسلّق جبل الذّكريات.

بعضهم كانت عيونه زرق، وبعضهم كان شعره أشقر، وكنتِ مثلهم بعيون زرق وشعر أشقر، عفوا عنكِ فلم يقتلوكِ عندما اقتحموا غابتكم الآمنة، ظنّ قائدهم أنّك منهم فتركوكِ حيّة.

ـــــ  أعتقد أنّهم سرقوها منّا، لا تكون هذه الطّفلة إلا فرنسية.

ــــ  نعم، هم سود الوجوه، سود العيون، سود الشّعر.

 ـــــ سود الأحلام، سود المشاعر.

 ـــــ ولذا يجب أن نسوّد معيشتهم، فهم قد تعوّدوا على الأسود في كلّ شيء. 

و ضحكوا باستهزاء و هم ينثرون الدّخان، و يسومون الهواء النّقي سوء العذاب.

كانوا يرون كل شيء منكم أسودا، حتى الأشقر منكم كانوا يرونه أسودا، حقدهم أسود، و أخلاقهم سوداء، أظلمت الأرض الزكيّة بهم منذ وطئوها.

أين النّور الذي كان يحيّيكِ من خلف الجبل باسما؟ يفتح ثغره لكِ، فتعانقينه مادّة يديكِ إلى السّماء، ككلّ الصّبية و الفتيات الصّغيرات. كنتم تفتحون له أيديكم ببراءة، و تتسابقون لتلقّيه في أحضانكم بكلّ إخلاص.

ـــــ  إنّه يقول لي صباح الخير.

 ـــــ و أنا وعدني أنه سيحضر لي دمية القشّ.

ـــــ أما أنا فقد وعدني بأنه سيأخذني في رحلة إلى أرض الحور العين.

و تساءل الصّغار عن معنى ألقيتِ به جديدا بين أيديهم، لتفوزي دوما بالاهتمام، فقد كنتِ تحبّين أن تحظي بالاهتمام و بالمكان المميّز بين الجميع.

ــــ أرض الحور العين؟ أين تقع؟

و تردّدتِ قليلا، لكنّ خيالكِ أنقذكِ من استهزائهم و سخريّتهم لو لم تجيبيهم، فقلتِ لهم بثقة:

ـــــ إنّها تقع في مكان بعيد، لم يصل إليه أحد بعد، لكنّ أبي يعرفه.

ــــــ أين؟ إنّك تكذبين.   

و غضبتِ و كنتِ تودّين أن تضربي ذلك الطفل الذي كان سيفضح كذبكِ، لكنّكِ توقّفتِ فجأة عندما خطرت لكِ إجابة كانت مقنعة أسكتت الجميع:

ــــ إنّها تقع في مملكة النور، هكذا قال لي أبي.

و نظر الصغار إلى روايتك الجميلة ” في مملكة النور”، و أرادوا أن يتصفحوها ليتأكدوا من كلامك، لكنك فررت بها بعيدا، و لم يقو أحد على اللحاق بك، لأنك كنت سريعة تمتلئين حيوية و نشاطا. 

و اليوم تتذكّرين كذبتكِ وتبتسمين لأنّها كانت كذبة بيضاء، كنتِ تودّين أن تصدّي بها سخريّتهم عنكِ، و لكنّكِ لا تجدين  اليوم ما تصدّين به ألمكِ عن قلبكِ عندما تتذكّرين الأحداث الماضيات.

سامية وألقوا أباكِ طريحا بضربة قاسية على رأسه، من فأسه التي كان يشتغل بها في الأرض، وصكّوا بطن أمّكِ الحامل بأخيكِ الذي كنتِ تنتظرين ولم يولد. وساقوا أخاكِ عبدا يعمل في أرضه ولكن بغير أجر، ثم جنّدوه وأرسلوه إلى هناك ليدافع عن حرّيتهم من حيث هم اغتصبوا حرّيتكم.

واستلقيتِ بينهما منتحبة، صغيرة لا تدرين ما تعملين:

ـــــ أبي، أبي، ماذا بك يا أبي؟ انتظر هنا و لا تتحرّك، سآتيك بقليل من ماء الوادي لتسترجع عافيتك.

وتنزلين إلى الوادي، وكنتِ من قبل تخافين الاقتراب منه وحيدة، لكنّكِ اليوم كبرتِ فجأة و صرت فتاة شجاعة، لأنّ الموقف فرض عليكِ ذلك.

فكم سمعتِ أباك يقول هذا الكلام لأخيكِ الأكبر:

ـــــ الظّروف الصّعبة تجعلك تتغيّر، تحمل المسؤوليّة و تكبر في لحظات. المواقف تجعل منكم أيها الأطفال رجالا.

و ها قد صرتِ في لحظة امرأة مسؤولة، فنزعتِ خوفكِ عنكِ، ولبستِ مكانه شجاعة و جرأة حين كنتِ تنزلين إلى الوادي بخطوات سريعة، غير آبهة بالمنحدر الذي كان يخيفكِ من قبل كثيرا و كنتِ تخشين السّقوط منه.

ذهبتِ و ملأتِ إناءكِ الصّغير، حيث كنتِ تستعملينه كآنية لمطبخكِ الخياليّ مع عرائسكِ الجميلة، و تمرحين بها مع رفاقكِ الصّغار.

 وأخيرا ملأتِ الإناء الصّغير، وبحذر حملتِه بين يديكِ الصّغيرتين، وصببتِ بعض مائه على رأس أبيك المشجوج، وبعضا منه داخل فمه ، ووقفتِ عند رأسه تنتظرين أن يشكركِ ويأخذكِ بين يديه ليقبّلكِ ويمسح على رأسكِ، كما كان يفعل كلّما فعلتِ أمرا يحبّه.

بقيتِ واقفة عند رأسه تنتظرين وإليه تنظرين، ولكن هيهات أن يتحرّك أو يستجيب، لقد سافر أبوك السّفر البعيد الذي لا رجعة منه. وكان قد حدّثك يوما عنه، عندما توفّي جدّك و حزنتِ عليه كثيرا، لكنّ أباكِ أخبركِ بأنّ جدّكِ قد سافر السّفر البعيد.

 ـــــ هو لن يعود إلينا أبدا، بل نحن من علينا أن نسافر إليه. 

و فهمتِ أنّه ربما ذهب إلى بلاد الحور العين، و رضيتِ أن تذهبي إليه يوما ما رفقة والديكِ، فكففتِ عن البكاء و كففتِ عن السّؤال.

وهاهو أبوكِ يفي بوعده، ويصدق في قوله ويرتحل ويسافر إلى أبيه ولا يأخذكِ معه.

 هو لم يترككِ يا سامية، بل هو مجرّد سفر ستركبين طريقه يوما ما، وكم تمنيتِ أن تركبينه في ذلك الحين، حين وجدتِ أنّ أمّكِ هي أيضا قد ارتحلت بأخيكِ الصّغير لترى جدّكِ، لتلقى أباها الثّاني فقد كانت تناديه ب “أبي” وكنت تتعجّبين، صغيرة كنتِ تندهشين، فتسرّين بالأمر لإحدى رفيقاتك:

 ـــــ  أهو حقا أبوها؟ وهو أب لأبي أيضا، إذن أمّي أخت لأبي. هل أبوكِ أيضا أخ لأمّكِ؟

ــــ قالت لي أمّي أنّنا جميعا إخوة، لأنّنا أبناء آدم وحواء. نحن كلّنا عائلة واحدة.

وكم كانت صادقة رفيقتكِ يا سامية، نحن كلّنا أرض واحدة، نسمة واحدة من نسمات أرضنا الكريمة، نحن عبق واحد من عبيرها الفوّاح، نقتسم روحا تتوزّع على أجساد كثيرة. 

جميلة ميهوبي.

 

Related posts

Leave a Comment