السياسة

د. شيرين هلال
كاتبة وروائية مصرية، باحثة دكتوراه في العلاقات الدولية الأفريقية
مستشار شبكة إعلام المرأة العربية للشؤون الأفريقية
يعد فن القصة القصيرة أحد أمتع الفنون السردية التي وجدت على الساحة الإبداعية، لما يتمتع به من مميزات فنية تحقق للقارئ جزءا كبيرا من متعته الأدبية في وقت قصير. ازدهر هذا الفن في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. هناك بعض الأمور التي ساعدت في ازدهاره، وهي ارتباط مولده بميلاد الصحافة، حيث مكنها طابعها الصغير من التواجد على صفحاتها المطبوعة. كما كان لظهور الطبقات الوسطى دورا كبيرا أيضا في انتشار هذا النوع من الأدب، باعتبارها الطبقة المهتمة بالتعليم القراءة وبالتالي قراءة الصحف وخصوصا تلك التي تنشر القصص. كانت مرتكزا مهما في الآداب العالمية، تناولت أعمالا اجتماعية وسياسية وثقافية شديدة التعمق والتباين ببساطة ومعالجة ممتازة.
عرفته الثقافة العربية في بداية القرن العشرين ومع اختلاف الموثقين على من صاحب أول قصة قصيرة باللغة العربية نجد قصة محمد تيمور “في القطار” التي نُشرت في جريدة السفور سنة 1917.
تعد المنشورات الأدبية الإريترية غزيرة الإنتاج بالنسبة للدول غير الناطقة باللغة العربية في القارة الإفريقية ومفاجأة أيضا حيث إن هذا المد الأدبي ظهر في مدة قريبة لا تتعدى الثلاثين عاما، بالرغم من تواجد اللغة العربية في البلاد من قبل ظهور الدعوة الإسلامية، حيث وفدت إليها مجموعات عربية من قبائل عدة في القرن السادس للميلاد. ضمت تلك المجموعات بطون من قبائل حمير (البَلُو أو البَلَويت)، ومجموعة القبائل القحطانية والجهينية ربيعة إلى أرض البجا (جنوب شرق السودان الحدودية مع إريتريا) عن طريق مصر للتجارة في المعادن التي عملوا فيها من جنوب السودان وحتى الهضبة الشمالية الإريترية. ومن هذا الوجود المبكر للقبائل العربية في إريتريا جاء الأدب المكتوب باللغة العربية، بما هو أدب ينتمي إلى الخريطة الإبداعية -الثقافية- الفكرية العربية، وسبب تأخره في الظهور بهذا الوضوح كما نراه اليوم هو كونه نابع من ثقافة شفوية لم تكن في ما بينها تتمتع بنسبة عالية من متعلمي القراءة بين السكان الذين اعتنقوا الإسلام.
مع قيام الثورة الإريترية في 1961 كانت الحاجة للكتابة ومخاطبة العالم العربي للتضامن مع القضية الوطنية الإريترية، كانت تلك الكتابات تتلخص في حكي قصص النضال الثوري التي ساهمت في إيجاد الحاجة للكتابة، حتى الحصول على الاستقلال النهائي في 1991. جاء الأدب الإريتري محمولا داخل حاضنة الثقافة الأصلية وهي الصحافة عندما ظهرت المجلات الأسبوعية والشهرية مع الجرائد التي تحتاج لمن يعبئها بالكثير من المحتويات الخبرية والأدبية. فظهرت القصة القصيرة على صفحات تلك الجرائد داخل إريتريا وخارجها، وكان أبرز تلك الأسماء: عبد الرحيم شنقب وجمال عثمان همد وعبد القادر حكيم والغالي صالح وهاشم محمود إدريس ابعري وحامد ضرار، محمود شامي وياسين ازاز ومحجوب حامد. ثم ظهرت أول رواية إريترية بقلم محمد سعيد ناود (رحلة شتاء) والتي طبعت في لبنان 1979، ومن بعد هذه التجربة توالت المنتجات الإريترية الأدبية المتنوعة. تميزت مسيرة الأدباء الإريتريين بعدد من المميزات ستناقشها هذه الورقة في مجموعة الكاتب محجوب حامد آدم، (شِنْكيباي).
سار الأدب العربي في كتابات أفارقة الدول غير العربية في مسارات ضيقة لكن مضيئة في نفس الوقت. وبعيدا عن كون هذا النوع من الأديب يعد حديثا على ثقافة شفاهية بالأساس إلا أنه شكل نوعا من التحدي وإثبات الوجود لأصحاب الثقافات العربية داخل مجتمعهم المتنوع لغويا وعرقيا في رغبة واضحة للتمييز والانتصار لثقافتهم بهذا الفن. بالرغم من تصنيفات النقاد لهم بأنهم يقعون في هامش ثقافة وأدب اللغة العربية بحكم موقعهم الجغرافي وبعدهم عن مركز الثقافة الأم التي هي موطن ومجال ممارسة اللغة العربية في شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا، إلا أن الواقع كان له رأي مغاير. نجد أن أغلب الكُتاب الإريتريين متواجدين خارج أوطانهم والكثير منهم يعيشون في مجتمعات إما عربية أو متحدثة باللغة العربية. جاءت كتاباتهم أيضا إثبات في الغربة على مركزية ثقافتهم في مواقعهم الجديدة. انتقل هؤلاء من العزلة داخل الوطن إلى الرغبة في الظهور والتمدد على استحياء في مجتمعات العزلة خارجه بالكتابة والتعبير القصصي والروائي على حد سواء.
وصولا لأديب اليوم الأستاذ محجوب حامد أدم الذي هو أيضا ابن نفس الحاضنة التي أنتمي إليها وهي: مدرسة الإعلام والكتابة. كاتب بارز للقصة القصيرة والشعر، يعيش خارج إريتريا بالقاهرة منذ عدة سنوات.
يقدم لنا الكاتب مجموعة قصصية تتكون من ثماني قصص متنوعة الموضوعات وهم: عند حافة الحلم، وجه الصباح، معشورا، ليلة رأس السنة، كذبة أبريل، خُسران.
عين محجوب آدم نفسه حارسا على مخزن الذاكرة الجماعية للإريتريين خارج وطنهم، أصبح أمينا على ذكرياتهم وعواطفهم وأحلامهم وحنينهم. مستخدما واحدة من أهم تقنيات السرد، وهي تقنية “الراوي العليم” الذي استطاع أن يقدم صورة متكاملة، صورة شملت المكونات الواقعية من الظروف المكانية والزمانية وأيضا تلك الخيالية التي نسجت السرد المنطوق على لسان ذلك الراوي العليم؛ من خلاله استطاع أن يقدم سرد موضوعي مطلع على مكنونات الشخصيات ويستطيع نقلها بخفة دون شعور القارئ بطرف دخيل على القصص، أو رواية مصطنعة تُحدث حالة من الارتباك لدى المتلقي. استعاض محجوب في سرده عن تفسير مشاعر الأبطال وتتبعهم في أحاديث أنفسهم برسم الظروف التي تنشئ تقبل ما تقدمه شخصياته على لسان الراوي، محافظا على النسق المتعارف عليه في سياقات كتابة القصة القصيرة.
يأخذنا محجوب حامد آدم إلى قُراه الأليفة المحزونة لفراقه لها، فنجد أنفسنا داخل حالته المشحونة في صورة جديدة من صور ما بعد العودة إلى الوطن. مُستهلا النص بجزء من الآية 15 من سورة الزمر، وهو اقتباس مباشر من القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ ٱلْخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ﴾، وكما نرى تتحدث الآية عن الخسارة للنفس والأهل لكي يستخدمها الكاتب كوصف مقتبس بليغ من القرآن الكريم عائدا على فقدانه لنفسه ولأمه الراحلة. بينما تتحدث الآية كاملة عن حالة الذين كفروا وليست معنية بمن غادروا أوطانهم أو فقدوا أقاربهم. فنجد الكاتب يهيئنا لكراهية الغربة ووصمها بالخسران الكبير.
بدأت المجموعة بقصة “عند حافة الحلم”. قصة بطلها رجل مسكون بتفاصيل موطنه الذي ضاعت عليه فيه فرص الارتباط والترقي. يظهر البطل مهزوما بكل تفصيلة يحكي عنها في شوارع المدينة ويرصدها على وشوش الفتيات الجميلات، تحاصره الذكريات ولا يستطيع الفكاك منها. يتحمل البطل عناء لقاء أصدقائه على الرغم من تجمعهم للاحتفاء به، فهو يحمل بداخله ذاكرة ماضي تسطو على حاضره وتسيطر عليه بالحزن الشديد. يتكلف الاحتفاظ ببشاشة مصطنعة مع كل من يقابلهم في يومه، يعتصره خلف تلك البشاشة حزن لا يفصح عنه الكاتب. تظهر حبيبته الأولى في منتصف القصة وفي آخرها لتجعلنا ندرك جزءا من آلامه التي تكونت بفقدانها، ولا يبدو لظهورها وظيفة أخرى سوى ذلك السبب. لا نفهم أيضا أسباب تواصله ولا علاقاته الحالية سواء مع حبيبته السابقة التي يذكر أنها ارتبطت ولديها طفل صارخ، أو أصدقاءه الحاليين الذين يحلفون بوجوده ولكنه يعاني من صحبتهم ويتركهم في انتظاره بلا اهتمام، حتى إنه يضجر من مشاركتهم الطعام، أنه يقف عند حافة الحلم ولا يستطيع أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام ليدخله.
غربة تسكن “وجه الصباح”، الفتاة الجميلة التي لا تعرف بأنها جميلة حتى يخبرها أحدهم بذلك، فتاة تفتقد إلى حالة الأنس الذي يصاحب وجهها أينما حلت، ورغم أنها تراه كل يوم على صفحة الماء، حين تسترق النظر، يتردد في ذهنها السؤال: “هل أنا كالصباح؟”.
أما عن طرق الاحتفال بعاشوراء فتختلف من مكان لآخر، في قصة “معشورا” يكتب محجوب عن طرق احتفال الإريتريين بعاشوراء، وكأنه يكتب عن حالة الفقد والحنين للتفاصيل التي تسكن المكان والحياة تجعله يدون عن حالة الحنين التي تصيب المغترب ويكتب عن تفاصيل الاحتفال ويدون عن كافة التفاصيل.
في “ليلة رأس السنة” يكتب –محجوب- عن حالة الفقد، يحكي عن الفتى الذي يستعيد الذاكرة وهو يشعر بالحنين، وتتجسد أمامه كلمات محمود درويش حين قال: “الحنين هو مسامرة الغائب للغائب، والتفات البعيد للبعيد”، وبطل القصة يدخل في حالة من الحنين والاغتراب، يحن إلى حبيبته، وإلى المواقف التي يتشاركان بها معا، ويلتفت للذكرى البعيدة التي تحتفظ بها الذاكرة، ولكنه لا يفقد الأمل، فيعيد الكرة معها أو مع غيرها الأهم أنه لا يفقد طريقته بالاحتفال بـ “ليلة رأس السنة”، ولا يغترب عن حاله أكثر من ذلك.
أما عن “كذبة أبريل” أو الحب الذي يسلب الألباب ويفقدك صوابك، فنجده يضعنا أمام امرأة فقدت بريقها بسبب كذبة تعرضت لها من قبل حبيبها، لينتهي بها المطاف في غربة تسكنها تجعلها غريبة عن أهلها، يعتصرها الألم، يعتقد الأهل أنها أصيبت بالجنون أو المس، ويحولون إزاحة هذا المس عنها، ويقام لها زار على الطريقة الإريترية، تفزع من مشهد الدم، تسقط، تحاول الوقوف يختل توازنها فتصاب بعاهة مستديمة تزيد من اغترابها أكثر وأكثر وتعيش بوصمة مطبوعة فوق خدها تجعلها تقف أمام المرآة “تتحسس وجهها، تبحلق وكأنها تقف لأول مرة أمام المرآة، تبسَّمت ساخرة وهي تنظر للندبة المحفورة على خدها الأيمن كالأخدود”، والتي ستظل تطاردها كالشياطين.
في القصة الأخيرة داخل المجموعة نجد إبراهيم بطل قصة “خسران” مشطورا من الحزن ومخضبا بالشيب بعد غربة استمرت لثلاثين عاما متصلة. وكعادة محجوب لا يعطي قارئه مبررا لأفعال أبطاله، فجاء إبراهيم مبهم الهدف، فاقد التعبير عن دوافعه، كلما استطاع توصيله للقارئ هو ذلك الألم الذي لا يفصح عن مسبباته الخفية. بين حفاوة الترحيب من أهل قريته والصخب الشديد في استقبال إبراهيم وبين حالة إبراهيم الحزينة الظاهرة داخليا وخارجيا عليه، يظل السؤال عن سبب ذلك الفراق وحتى سبب هذه العودة المفاجئة للأهل والجيران والأقارب الذي يتضح أنه كان ينعم بينهم بعلاقات دافئة وهم في حالة نشوة بعودته.
تعمد محجوب الكتابة التي تترك الأبواب مفتوحة للقارئ ليس حبا في التماهي ولا إتباع المداراة السياسية ولكنها انتصرت عليه هذه المرة، ربما دون أن يشعر هو شخصيا بهذا الانتصار، انتصار السياسة على واقع المعايشة الحياتية في القصة. فقد رفض إعطاء السبب ولم يستطع تقديم بطل مفوه مغفور له خطيئة “الخسران”، التي أراد محجوب أن نراها في اختياره الغربة بإرادته الحرة، ليتضح مع إفراغه لجعبة “إبراهيم”، وسقوط السبب الذي أعلن عن نفسه، في احتضانه للوطن ككل و ليس فقط قريته الصغيرة ؛ حيث تعامل منذ وصوله إلى أرض أريتريا كسائح يحتاج الزيارات والشرح لمعالم بلده، و هو يشعر بالاحتضان في كل بقعة تطأها قدماه، كدليل على أنه لم يكن حرا في مغادرة ذلك الوطن، وأن الأسباب التي قد تبادرت للقارئ عن المغترب الأثيم؛ ذلك الجامع للمال أو غير العابئ بالزمن الذي قضاه خارج تلك الأرض. ثم يأتي تعاطف الأهل والأقارب مع عودته المفاجئة يشير إلى حالة الإجبار على المغادرة التي لحقت بالكثير من الإريتريين في المهجر منذ ثلاثين عاما أي منذ حدوث حدث سياسي معين بدأ منذ أن قرر إبراهيم “الفرار” وليس “السفر”. هنا نستطيع القول بأن حلم العودة الذي يراود محجوب نفسه قد انتفض على قريحته الأدبية التي تصر على إخفاء الإسقاط السياسي الرائع في عودة أبطاله ولا سيما بطله الأخير إبراهيم الذي كُتبت قصته في القاهرة 2021.
نرى من خلال هذه القصص محاكاة لحياة الإريتريين العائدين من خارج البلاد ليواجهوا صراعا نفسيا يجعلهم عالقين بين الماضي والحاضر، سار بناء القصص في خط واضح لكن جاءتني نهاية بعض القصص بلا تفسير، تركت الباب مفتوحا بعد طرح سؤالا لم يجب عليه أحد في القصة ولم يعط إشارة تسمح لخيال القارئ بالكثير لينطلق منه لفهم العالم.
هذا البناء المتماسك الذي قدمه كاتبنا داخل القصة الأولى هو ما استمر في تقديمه داخل قصص المجموعة رغم أنه نوّع في الأنماط التي قام بكتابتها، والتقنيات التي قدم بها نصوصه داخل المجموعة، كأنها مشاهد مستمرة، تقف كشاهد على الفقد والحيرة والغياب الذي يمزقه هو وكل مغترب عن وطنه في كل لحظة.
شينكباي: عندما تتحث اللغة عن ذاتها…
لدى شِنْكيباي مجموعة من عتبات النص لا نستطيع إغفالها بداية من عنوان المجموعة “شِنْكيباي”، وهي كلمة من اللغة التجريتية ليست عربية، وليست عنوانا لإحدى القصص في المجموعة، جاءت كعنوان للمجموعة ككل، يبرز الكاتب من خلال اختياره للاسم ملمحا إريتريا أصيلا يجعل قارئ المحتوى العربي ينطلق بالسؤال عن معنى العنوان.
تبعا للمعنى الذي ترجمه المؤلف تعني حزمة من جدائل السعف، تُربط ببعضها جيدا، وهي واحدة من الدلالات المستخدمة داخل المجتمع الإريتري وتعبر عن الفرح وطريقته بالاحتفال بكافة المناسبات المختلفة، استخدم الكاتب كلمة شِنْكيباي كي يعبر عن طريق الاحتفال الإريترية بالمناسبات المختلفة، ربما تكون هذه المجموعة شكل من أشكال الاحتفال بالذاكرة الحية التي تدون عن مشاهد تحدث وما زالت تحدث في إريتريا حتى الآن، فالكاتب رغم بعده عن بلاده كل هذه السنوات إلا أنه ما زال يمسك بتلابيب الذاكرة بين يديه. كيف يبحث عن الفرح في قلوب كل هؤلاء المغتربين عن الوطن، هل يمكن أن يجمع الإنسان أشلاء نفسه، ويربط كافة الخيوط ببعضها ويحصل على الأمان والسكينة والبهجة التي ينشدها، ولكن يحدث هذا والاغتراب والحنين يسيطران على أجواء القصص، أو ربما شِنْكيباي هي الأمل في غد أفضل وفي وطن يتسع للجميع.
أما العتبة التالية نجد الكاتب يختار تصميم للغلاف تظهر فيه امرأة إفريقية ترتدي زيا إريتريا تقليديا، ترقص شعثاء الشعر وسط أجواء من طيش الأمواج أو النيران واللهب وكأن رقصتها هي نوع من التمرد والانتصار على مخاطر وتحديات كبيرة مرت بها. يختار الكاتب ألوان الزي لتلك الراقصة من ألوان الـ “شِنْكيباي” تأكيدًا لذلك على انتماء المجموعة لثراء المكونات الإيريترية.
العتبة التالية: تسيطر مشاعر الفقد والاغتراب على الإهداء المميز الذي اختاره الأستاذ محجوب للمجموعة والذي وجهه “إلى من يملكون شغاف قلبه ويملؤون عقله بحكاياتهم رغم الغياب”. ذلك الشعور -شعور الغياب- هو ما سنجده متمركزا في الحالة الشعورية التي يحاول الأستاذ محجوب أن يأخذنا معه فيها. نجده يستهل أيضا القصة الأولى باقتباس شهير من أقوال شمس التبريزي، يقول على لسان الراوي العليم: “يمكن لأي شخص أن يختارك في توجهك، لكني أنا سأختارك حتى حين تنطفئ، تأكد بأني وإن رأيت النور في غيرك سأختار عتمتك”، هذه المقولة تأكيد إضافي لما سيجده القارئ مع دخوله لقراءة أولى القصص وحتى آخرهم، حيث يتخللهم مقتبسات من شعراء أغلبهم عرب أو أغنيات ترجمت للعربية مثل اقتباسه من الشاعر محمود درويش، إذ يقول: “الحنين هو مسامرة الغائب للغائب والتفات البعيد للبعيد”، هذا الاقتباس الذي يؤكد على نفس فكرة التعبير المكثف عن الاغتراب وحاجة الكاتب الملحة للكتابة والاقتباس مما يعبر عن تلك الحالة التي يشعر بها أو الحالة التي تلبسته أثناء كتابته لقصص المجموعة. كما اكتفى بقطعة من قصته الأولى تتحدث عن ردود الأفعال الساخرة من المغترب عندما يعود إلى وطنه، وهو ملمح غير مطروق كثيرا في الكتابات عن الغربة والحنين التي يشعر بها الفرد بعد غيبة طويلة عن الوطن ليدخل في مرحلة جديدة من الاغتراب يشعر بها لكن داخل موطنه الأصلي بسبب انفصاله الذاتي واختياراته التي أصبحت مغايرة للمعتاد والتقليدي.
الزمان داخل المجموعة هو زمان العودة، لم يتحدد بشكل واضح أو بصفة واضحة، يبدو الليل مسيطرا على الأبطال، كأن سياج يمنعهم من العبور النفسي للتوقيت الذي أجبروا فيه على الخروج من المكان والهروب بأرواحهم بعيدًا، والذي يعبر عن الاغتراب والحنين.
تدور أغلب الأحداث في الشوارع، المكان الذي يهرب إليه الأبطال بحثًا عن مساحة من الزمان للحركة والتخلص من القيود النفسية التي تحجمهم، فيظهر المكان المفتوح على العالم، بأنه مفتوح للجميع ولكنه مغلق على أبطالنا.
أورد الكاتب بعض الملامح للشوارع في أسمرة حكى عن المكان بأسماء الشوارع الكبيرة في وسط المدينة والشوارع التي تقع على أطرافها وذكر أسماء بعض القرى والمدن المهمة في البلاد.
كما يتضح الصراع النفسي الذي يمر به من خلال اعتزازه بالمباني المقدسة، فقد قام بالكتابة عن تفاصيل الأماكن التي يفتقدها، مثل: الكاتدرائية والشوارع العريقة.. وغيرها من الأماكن، كتب كل هذه التفاصيل بلغة تجعل القارئ يتلمس صراعه الداخلي في احترام الوطن والتباكي على مفرداته التي بات يرفضها بحكم الاختلاط مع الآخر في الخارج.
مستويات اللغة في المجموعة
استخدم الكاتب قاصدًا لغة مباشرة وأسماء حقيقية للأماكن، بما يدل على رغبته في إفراغ شحنة عاطفية يحملها للقارئ بسهولة. جاءت أسماء القصص نابعة من إحساس الأبطال العميق بالخسارة بسبب كل أيام الفراق وشعورهم بحجم تلك الخسارة عندما عادوا بعدما اكتشفوا أنهم هم أنفسهم لم يعودوا متواكبين مع ما يشاهدوا أو ما كانوا يحلموا به في السابق.
تنوعت مستويات اللغة ما بين اللهجة الفصيحة التي استخدمها الكتاب للوصف والسرد ونقل الحوار الذاتي للأبطال، واللهجة البيضاء الإريترية، التي يقدم من خلالها خليطا ما بين اللهجة الفصحى واللهجة الإريترية والتي ظهرت من خلال عدة نقاط: مثل استخدامه للألفاظ اللغوية الخاصة بهم، مثل: “الجركانة، معشورا، تاكو، سقنيتي، الطست،”، واستخدامه لطريقتهم الخاصة بالحوار بين الأبطال؛ فنجد البطلة ترد على البطل بقولها: “ربنا يقبل حمدك”، وتارة تظهر اللهجة في العنوان الخاص بالمجموعة أولا بالألفاظ العامية التي أورد لها هامش للتوضيح مثلا: “معشورا، أي عاشوراء، معشورا مشعورا وهو الابتهال الذي يتردد على ألسنة النسوة، الأثافي “.
جاءت اللغة الوصفية التقريرية لتسيطر على الأبطال وعلى أغلب مساحات الكتابة داخل القصص، ولكي تعطي مساحة للراوي العليم بالتحرك داخل النص كأن الكاتب يرصد من خلالهم –أبطاله- تفاصيل الاغتراب والحنين والعزلة.
استخدم لغة خاصة جدا في الوصف، نجده يقول على لسان الراوي: ” لولوج المدينة، سترتك العنابية، شوارع كمبشتاتة، لفح الزمهرير، المساءات الندية، غضاريف الذاكرة، تسوي خطاك، دخان البخور المعتق بالصندل”.. وغيرها.
اقتبس الكاتب من الكلمات الدارجة على اللسان العربي، كقوله: “أن تأتي متأخرًا خيرٌ من ألا تأتي أبدًا”، كما اقتبس من كلام محمود درويش، ينقل عن درويش قوله: “الحنين هو مسامرة الغائب للغائب والتفات البعيد للبعيد”، ومن طريقة الابتهال والدعاء التي تمارسها النسوة في إريتريا، يقول: “عاشوراء عاشوراء.. اهدنا أمانينا الجميلة.. وأطلي أظافرنا بألوان السماء”، وقول آخر: “يا رب عفو دنيا سلمنا ونجينا، تاكو تكينا عد ربي اتينا”، والأغنيات الواردة على لسان النسوة، يقول: “قمج أبا لعنتاتي أتحاليكو إقل إردى.. وغاششكوها نفسيي إلا شاما قل أبدي.. تبوم بيلا للبيي كمسل شداد وردي.. حكم ربي ردات خالقو وجبو لحمدي”.
التفاصيل:
قام الكاتب برصد طبيعة الحياة والطريقة التي يعيش بها الإنسان واقعه، نرصد من خلال الأبطال ما أورده الكاتب من وصف لبعض الملامح الخاصة بالشوارع في أسمرة واستخدامه لأسماء الشوارع الكبيرة في وسط المدينة وأطرافها، جعلنا نتخيل شواء لحم الضأن على طريقة أهل أسمرا، التي يحاول فيها الإيحاء بأنها لم تعد تناسبه بعد أن تذوق أصنافا أخرى، في حين أنه ما زال يتغزل في القهوة بالزنجبيل وروائح البخور التي تجعله ينتشي.
يرصد الكاتب العادات والتقاليد وطرق الاحتفال بعودة الغائب وحفظ نصيبه من الطعام الذي يقدم احتفالا بالأعياد الدينية، والتجمع للصلاة في السهل المنبسط أسفل الجبل، ودفع أموال الزكاة التي حال عليها الحول وخروج الصبية إلى الساحات، ومناسبة الأفراح والاحتفال بموسم الحصاد، والعادات والتقاليد التي اكتسبها الناس وهم يطبقوا الأحاديث والسنة.
يرصد أيضا تفاصيل العالم الذي تحول إلى قرية صغيرة، فنجد تأثير الهاتف المحمول الذي اجتاح العالم، وأصبح جزءا لا يتجزأ من طبيعة حياتنا اليومية، وكذبة أبريل التي رصد صداها في حكاية المرأة أو الفتاة صدمت من مقلب حبيبها وكادت أن تفقد حياتها من شدة الجنون، وطرق أهلها في علاجها واعتقادهم بأن مسا من الجن قد أصابها، وكيف يقومون بعملية التطهر، وكأنه يعيد بهذا المشهد إلى الأذهان طرق الزار في مصر ولكن على الطريق الإريترية.
طرق بناء البيوت، والطريقة التي يصفون بها البيوت في اتجاه القبلة من أجل الصلاة، والنظام الذي تشتهر به أكواخ القرى، الشيوخ الذين يعلمون الأطفال القرآن ويتحلقون كل ليلة في الساحات.
كما رصد طريقة الطبخ وأنواع الأكل المفضلة في إريتريا، مثل: طبق البليلة، هم يأكلونها مالحة ومصنوعة من الذرة وفي مصر نأكلها محلاة ومزينة بالمكسرات والزبيب والعسل ومصنوعة من القمح.
يرصد أيضًا طرق تقديم الطعام في أوراق السعف، تناولهم للذرة الصفراء الرفيعة، وتجفيفها على النار، وشرائح اللحم المجفف والمملحة، وشواء لحم الضأن، وطرق التعامل مع الأضاحي الخاصة بعيد الأضحى، وطرق اشعال النار وطبخ الطعام، وشرب القهوة، وغلي أبريقها على نار هادئة.
مرّ الأدب الأفريقي خلال السنوات الماضية بكثير من التطورات، في تقنيات الكتابة والموضوعات التي تناولها، في محاولة جادة لمواكبة العصر، والكتابة عن الداخل الأفريقي، بعيدا عن مقاومة الاحتلال، والحفاظ على الهوية واللغة واللهجات التي تكاد تندثر. أخذ الكتاب الأفارقة على عاتقهم مهمة شاقة للتدوين والبحث والكتابة عن القارة السمراء في أدبيات حديثة ومتجددة ومختلفة وبلغات ولهجات متعددة، فدونوا عن الأقليات والإثنيات وغيرها.
في ظل هذا التغير السريع الذي يصيب عالمنا و بالتبعية يشمل قارة أفريقيا، جاء التدوين باللغة العربية للحفاظ على شكل من أشكال الهوية الأفريقية فكانت هناك محطات جديدة تضاف إلى الساحة الإبداعية الأفريقية، خلال هذا التطور استطاعت القصة القصيرة الإريترية أن تأخذ لنفسها مكانة مهمة، صارت على نفس طريق القصة القصيرة العالمية، في مدة قصيرة لا تتعدى الثلاثون عاما. استطاع الكُتاب ومدونو اللغة العربية في إريتريا على وجه الخصوص من حفظ مكانتهم وتسجيل حقوقهم في ديموغرافيا المكان عن طريق اللغة الأدبية الغائرة بالحزن والحنين لأوطانهم المحرمون من التواجد بها، ليحفروا حقهم السياسي في ذاكرة العالم رغما عن الواقع المجحف لذلك الوجود، باستغلال القصة القصيرة.
جاءت المجموعة القصصية في ثوب ضيق على إمكانيات اللغة الفصيحة التي احتوتها، أشعرت القارئ بالحاجة للمزيد من القصص لكي تحدث التوازن بين اللقطات المكررة باختلاف في القصص المحدودة بالمجموعة. كما بدا ميزان المجموعة مائلا شديد الانحياز لجانب المغترب المتمسك بجذوره، مهملا التعبير عن حياة الإريتريين التي تعج بالكثير من التفاصيل الحديثة التي في حاجة ماسة لمن يعبر عنها مثل أشكال الخروج من الوطن و نوع اللجوء لدول الاغتراب، تفصيل شعور المغترب والتفرقة بين المغترب طوعيا وذلك الهارب من بطش الأنظمة والباحث عن فرص أفضل، رسم ملامح للأجيال الجديدة التي نشأت خارج الوطن الإريتري، نوع العلاقات الأسرية التي تكونت في مجتمعات الغربة والزيجات مع الجنسيات الأخرى و غيرها الكثير من الأمور التي كانت هذه المجموعة تتحمل وجودها على اختلافها في الصور واتفاقها على وحدة الفكرة الأساسية و هو قضية الاغتراب الإريتري، والتي تصلح لأن تكون المرحلة الثالثة للكتابة القصصية الإفريقية بعد مرحلة الاستعمار ثم مرحلة مجتمعات التحرر والآن مراحل الاغتراب والتعامل مع مجتمعات الاستضافة واللجوء.
أما عن محجوب حامد آدم الذي يرى أن القصة القصيرة مشروع قصيدة فاشلة، إلا أنه لم يفشل في كتابتها، بل قدمها في إطار قصصي ممتاز، استطاع من خلاله تسليط الضوء على واقع الشخصيات، والحيوات المختلفة التي يمر بها الإنسان خلال سنوات عمره في الغربة وبعد العودة المأمولة، وما يفعله الاغتراب والعزلة بالإنسان، فيكتب عن الذاكرة التي تطارده أينما حل، والتفاصيل التي لا تفارق مخيلته، فكانت قصصه عبارة عن قصائد تسلط الضوء عن الاغتراب والحنين والحالة الشعورية التي يمر بها الإنسان وتصيبه بالعجز، وتجعله عاجزا عن التعبير عن مشاعره وهو في ظل نيران مجتمعه أو قبيلته وعاداته وتقاليده التي لا ترحم، في نسق أدبي منمق بليغ راقص على أنغام سياسية مسموعة لدى متلقى رسالته من القصص، حجزت له خامة أدبية تخص محجوب حامد آدم وحده.

Related posts

Leave a Comment