كلنا يعرف الصبر، وهو الصبر الجافّ – كما أسميه – وهو عندما يقع للإنسان مصيبة في نفسه أو أحد أحبابه، فإنه يصبر ويسلم الأمر لله، هذا أسميه بالصبر الجافّ، لأنك لا تملك أن تعيد الميت، ولا أن تعافي المريض، ولا تعيد ما سُلب منك، فهذا الصبر العادي، يشترك فيه كل من هم على وجه الأرض المسلمون وغير المسلمين.
معنى الصبر الجميل
أما الصبر الذي أراده الله تعالى منّا هو الصبر الجميل، يقول تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً﴾ [المعارج: 5]. بمعنى: أن تصبر وأن ترضى، الصبر مع الرضا، والصبر مع غير الرضا مرتبة ضعيفة جدا، فالصبر مع الرضا أن تكون صابرا متقبلا الأمر، وفي الوقت نفسه تكون راضيا مرضيا بما كتبه الله تعالى عليك، وتقنع نفسك بذلك، وتقول: الحمد لله على كل حال، لله ما أعطى ولله ما أخذن ولا نقول إلا ما يرضي الله، يقول تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]، هذا رضا، أنا راضٍ بما اخترته لي، {أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف: 155].
تميز الأنبياء بالصبر مع الرضا
تميّز الأنبياء أنهم كانوا صابرين وراضين، وشاكرين، الصبر مع الرضا مع الشكر، وهذا هو الصبر الجميل، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]، أي أن سيدنا يعقوب عليه السلام عندما فقد يوسف وأخاه، فإنه قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، يعني: لا أملك إلا الصبر مع الرضا، والصبر مع الشكر، ولم يقل: فصبر فقط، وإنما قال: فصبر جميل، أي أن الصبر لا يجمُل إلا إذا كان فيه رضا وفيه حمد وفيه شكر، هذا هو الصبر عند المؤمنين.
يقول تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)} [الأعراف: 137]، إذن؛ كل صبر عليه مكافأة في القرآن الكريم لا بد أن يكون صبرا جميلا، وهذا نوع من أنواع الصبر، الصبر على البلاء مع الرضا مع الحمد مع الشكر، هذا في مجمله يسمى بالصبر الجميل.
الصبر على الطاعات
وهناك صبر آخر جميل – أيضا – وهو الصبر على الطاعات، وهو الذي يهوّن عليك باقي أنواع الصبر، مثل من مات له حبيب أو قريب أو فقد شيئا عزيزا لديه، فالأساس عندنا أن يصبر ويرضى ويحمد ويشكر، هذا يسمى بالصبر الجميل، وهناك شيء يؤكد هذا الصبر الجميل، وهو الصبر على الطاعة، فإنه يقوي الصبر الجميل، يقول تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)} [هود: 114 -115]، ويقول تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (132)} [طه: 132]، اصبر على صلاتك، واصبر داخل صلاتك، واصبر في ركوعك، واصبر في سجودك، واصبر في قيامك، واصبر في دعائك، هذا معنى الصبر الجميل على الطاعات والعبادات.
لا تشبع من العبادة
شخص يحب القرآن ولكن لا يصبر على تلاوته، فهذا لا يصح، وآخر يحب الذكر ولكنه لا يستطيع أن يستمر في الذكر الكثير، فهذا لا يصح، وآخر يحب الصلوات المحمدية ولكن ليس عنده صبر عليها، فهذا لا يصح، إذن؛ مرتبة الصبر الجميل في العبادة أنك لا تشبع من العبادة، ولا تمل من العبادة، وتستحضر قلبك ونفسك أثناء العبدة، وتكون العبادة أحبَّ شيء لديك “أرحنا بها يا بلال” يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الليل: ((عليكم بقيامِ اللَّيل، فإنَّه دأبُ الصالحين قبْلَكم، وهو قُرْبة لكم إلى ربِّكم، ومكفرة للسيِّئات، ومنهاةٌ عن الإثم))( )، فقيام الليل هو شرف المؤمن، والسلعة التي يتميز فيها، لأجل هذا فالعبادات المتميزة إذا أداها الإنسان بلا صبر فلا قيمة لها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي: “ارْجِعْ فَصَلِّ، فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ثَلَاثًا، فَقالَ: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ ما أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقالَ: إذَا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ ما تَيَسَّرَ معكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وافْعَلْ ذلكَ في صَلَاتِكَ كُلِّهَا”( ).
نماذج من صبر الأنبياء في القرآن:
قال تعالى آمرًا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالصبر: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، وكان نبي الله أيوب عليه السلام، غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك، قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 32-84].
ورأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل عليه السلام؛ ورؤيا الأنبياء وحي، فأخبر ابنه بذلك، وعرض عليه الأمر. قال الله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
آيات عن المغفرة وإثابة الجنة للصابرين:
قال الله تعالى في سورة هود: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11].وقال تعالى في سورة الرعد: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَن