قراءة نقدية في رواية ٩ مارس للروائي محمود الشامي

بقلم: الاستاذ مصطفى نصر

الجزء الاول
لم يكن اختيار الكاتب والشاعر محمود الشامي لعنوان روايته (٩ مارس) عبثاً، فالتاسع من مارس هو نقطة فارقة في تاريخ دولة إرتيريا ، والنضال المسلح لجبهة التحرير الإريترية ضد المستعمر الإثيوبي في اقليم دنكاليا ، إذ أنه في ذلك التاريخ المجيد وفي العام ١٩٧٩ تحديداً، ومن إقليم (دنكاليا) ومن مدينة (البرعوصلي) التي تبعد ١٢٠ كيلومتراً شمال مدينة (عصب) عاصمة إقليم دنكاليا، انطلق أول عمل نضالي مسلح ضد القوات الإثيوبية في منطقة برعصولي ، واستطاع الأشاوس من ثوار جبهة التحرير الإريترية الاستيلاء على المدينة، وطرد القوات الإثيوبية منها، وغنموا في ذلك اليوم الكثير من الأسلحة والذخائر، بالإضافة إلى دفعة قوية وروح معنوية تبلغ أعنان السماء، وقد شكل هذا الانتصارأول الغيث في عدتهم وعتادهم لنضالهم المثابر والطويل من أجل التحرير، ولعب أبناء هذه المدينة أدواراً مهمة لترجيح الكفة وقلب الموازين في بعض المعارك وتنفيذ عمليات نوعية وسريعة، وذلك بطبيعة الحال لمعرفتهم الجيدة بالبحر ودروبه الوعرة.
سوى أن رمزية (الزمكان) التي أصبحت من محمولات الكاتب تخليداً لذكرى هذا اليوم العظيم وتلك المنطقة الباسلة، سيصبح فيما بعد في الحبكة الروائية التي بين يدينا منطلقاً لإضاءة تاريخية زمكانية أخرى لحياة بطلة الرواية (رحمة) ابنة إرتيريا، التي مثل لها هذا اليوم نقطة فارقة في تاريخها الوطني على المستوى الجمعي، وفي تاريخها الأسري الخاص أيضاً، لتبدأ رحلة تيهها في ثنايا أحداث الرواية، ابتداءً من رحيلها أسرتها قبل ولادتها بعشر سنوات ، من أصقاع إقليم (دنكاليا) ومدينة (البرعوصلي) إلى موطن جديد، منحها عائلها المأوى والمأمن والجنسية كمواطنين مقيمين، في العاصمة جيبوتي، في الدولة الجارة جيبوتي.
ولعل من المفارقات أن البطلة (رحمة) لم تكد تعرف لها موطناً غير جيبوتي التي ولدت ونشات وترعرعت بها ، في قلب العاصمة بالحي الرابع Q4 (كارت كات) لولا حكايات أبيها التي لا تنقطع عن موطنه الأصلي إريتريا، التي لم تحمل لها أي ذكرى لصغر سنها في وقت الرحيل،
بعد أن فرت الأسرة لموطن جديد اتقاءً لنيران طائرات إثيوبيا التي بدأت حملة تأديبية لهذه المنطقة التي خرجت عن طوعها، ولم تفرق صواريخها الآثمة بين حجر أو مدر أو بشر، فقتلت من قتلت ودمرت ما دمرت، ظناً منهم بأنه مجرد تمرد محدود يمكن إخماده بعدد من الطلعات الجوية، تصيب بحممها بدقة من اسمتهم بحسب قراءة أولية للحدث بـ(المتمردين)، لإخماد الفتنة والتمرد في مهده، ولم يدر بخلد المخابرات الإثيوبية حينها أنهم ليسوا في مواجهة تمرد محدود، بل هم في مواجهة ترجمة قلبية صادقة لرغبة وإرادة شعب حر أبي يرسم اللبنات الأولى لأحلامه – التي أصبحت حقيقة لاحقاً- بعد رحلة طويلة من البذل والعطاء والعرق والدماء الغالية التي أريقت رخيصةً في سبيل التحرر والاستقلال.
كانت رحمة التي مثلت دور البطولة المطلقة، نموذجاً واضحاً للحكم دونما تردد بامتلاك الكاتب لناصية أدواته الروائية، ولعل أول تأكيد لبراعة الكاتب في امتلاك ناصية أدواته الفنية، أنه قدم نموذجاً رائعاً لبناء شخصياته القصصية –الأساسية والفرعية – بصورة فائقة الدقة والواقعية، من جهة أنه يمكن مقابلة أشباه لهم كنماذج حية في أي مجتمع عربي أو أفريقي محافظ، يتوزع في قيمه الخاصة بين تابوهات العيب والحرام، في منظومة الأعراف والتقاليد والدين والقيم الذكورية المسيطرة، التي لا فكاك منها في كل ما يحملونه من ملامح شخصية ونفسية، كأشخاص طبيعيين في الواقع المعيش، الذي ينقسم بين أشرار وأخيار.
ففي مقابل ملائكية وبراءة ونقاء (رحمة) و(ناصر) و(فردوسة) وشلة الأنس المحبة للحياة وللطرب وللفنان الجيبوتي عبد الله لي بشكل أساسي، كما كانوا يتأثرون بأنغام وردي وسيد خليفة وزيدان إبراهيم، وغيرها من الأنغام الإثيوبية والإرتيرية والغربية، فليس غريباً بأي حال من الأحوال أن تكون من بين الأغنيات التي ودع بها ناصر صديقته المقربة (رحمة) وهي في حفل وداعها وهي متوجهة للإقامة في لندن:
في الليلة ديك
في الليلة ديك
لا هان علي أرضى وأسامحك
ولا هان عليَّ أعتب عليك.
والى جانب براءة هذه الشلة نصطدم أيضاً وفي نفس الوقت بأنانية وصفاقة وخبث (أمان) الذي لا يعطي ضحاياه ذرة من (أمان) نقيضاً لاسمه، حيث أنه لا يقيم وزناً للمشاعر الإنسانية، بل يتخذها مطية لنزواته الحيوانية الشهوانية، التي لا تعرف السكينة والهدوء إلا في رؤية ضحاياه الكثر وهم يدفعون أثماناً باهظة لمعاناتهم كضحيته الأخيرة (رحمة) التي لم يعاملها رغم تضحياتها الجسام، ووقوفها الصلب في وجه أسرتها التي رفضته لتكون معه، لم يعاملها ولو بذرة صغيرة من الرحمة والوفاء، حتى وصفها الأصدقاء بأنها (لفها الغموض وصارت انطوائية، لم يكن طبعها التقليدي والمعهود هكذا، وعلى العكس كانت مرحة واجتماعية، لربما تعرضت لتجربة قاسية، هزةقوية، وإعصار عنيف ومدمر، غير مجرى حياتها ليحصل ما حصل)، فهي فعلاً آخر ضحاياه الذين توغل في لحمهم الحي فصارت كما قالت عدة مرات: (مات كل شيء بداخلي، وشلت جميع حركاتي وسكناتي، أعيش جسداً بلا روح، أو بالأحرى: لا أعيش)كانت البراءة في مواجهة غير متكافئة مع الخبث، حيث يشهد كل من قرأ الرواية بأن أمان (غدر برحمة، وبمن أخلصت له وضحت لأجله وأحبته، ووقفت في وجه أسرتها للإرتباط به عبر المحكمة، تنصل من كل عهوده دون اكتراث لعواقب تصرفاته، ولا لمصير بنتيه، وضارباً جميع وعوده لهن عرض الحائط).
وهو يحمل كل أدوات الغدر، حيث (كان وسيماً وزير نساء متمرس يجيد فنون الاصطياد والعزف على الأوتار، وتصنُّع الرومانسية والعاطفة، وما كان يميزه كذلك هو الهدوء والرزانة والغموض، وتركه الفرصة للآخر كي يبدأ الضربة الأولى، ويختار هو لنفسه المكان والزمان المناسبين للرد).
وهو لبراعته في خلق شخصياته الروائية لم يستطع أن يشفع لأمان، ولم ينجح مطلقاً في تخفيف غلواء كرهنا له بمحاولة تبرير سلوكه العدواني المستهتر بربطه بقسوة المجتمع في التعامل معه، حيث كان البعض ينادونه بـ(ابن الحبشية) على مسمع منه، حيث لم يقنعنا هذا مطلقاً في التعاطف معه، فإذا كان (بعض) المجتمع يقسو عليه، فإن (نفس) هذا المجتمع الجيبوتي قد أتاح لـ(ابن الحبشية) هذا أباً بالتبني من قلب المجتمع هو أبوه (حمدو) الذي تزوج أمه، ورعاه كابن من صلبه، ولم يفرق بينه وبين بنته من صلبه وشقيقته من أمه (فافي) ومنع كل أقاربه من أي تمييز بينه وبين بنته من صلبه، ومنحه العطف والحنان، وهيأ له سبل الدراسة والتحصيل حتى وصل إلى منتهاها بالدراسة الجامعية، كما أن نفس هذا المجتمع الجيبوتي الذي ناداه بعض أفراده بـ(ابن الحبشية) أتاح له منحة جامعية لفرنسا، لم يفرق بينه وبين أي مواطن أصلي،حيث نال درجة علمية في الاقتصاد والمحاسبة، بل إن نفس هذا المجتمع الجيبوتي قد أتاح له منصباً قيادياً رفيعاً بين صفوف الحزب الحاكم على رأس الهرم بحيه السكني، فنال محمود الشامي ببراعته في دقة رسم شخوصة، فشلاً ذريعاً وهو يدفعنا للتعاطف مع بطله (أمان) الذي لم يرتبط في عقولنا سوى بـ(الغدر) وعدم الوفاء، فلم يبدو أي أسف في نفوسنا من الطريقة البشعة التي أنهى به حياته منتحراً.
ولا يفرق الكاتب في دقة البناء الشخصي والنفسي بين أي شخص من شخوصه أساسياً كان أو فرعياً، فشخوصه على حد سواء تعرفهم جيداً بالرسم الدقيق بما يشبه فن البورترية لملامح وجوههم، كما تلمس أدق التفاصيل في خصائصهم الوجدانيةوالنفسية، ولعل اتساع المجال في الرواية بما يسمح بالإسهاب في الوصف وصولاً لأدق التفاصيل التي ربما تعد هامشية لا خطر لها، كخاصية من خصائص العمل الروائي مقارنة بالقصة التي لا يسمح مداها الذي يجب أن يكون متوسط الاتساع، والإقصوصة منعدمة الاتساع سواءً في أحداثها أو في بعديها الزماني والمكاني، أو في محدودية شخوصها لقيام الأقصوصة أو (القصة القصيرة) على التركيز كمبدأ أساسي.
ومن مظاهر براعته في امتلاك أدوات عمله الروائي، تحميل عنصري الزمان والمكان طابعاً تأريخياً للإيغال بإسهاب في التأريخ الجيوساسي لإرتريا وجيبوتي والقرن الأفريقي عموماً، والتأريخ التليد لأجداده العفريين في تاجورا وبسالتهم وبطولتهم، والتداخل اللغوي للمنطقة عموماً بكل ما تضج به من لغات تواصل يقع على رأسها الصومالية والتغريتية والامهرية والعربية فضلاً عن الفرنسية والإنجليزية، وصولاً لخارطة النشاط في الجغرافيا البشرية لأهل المنطقة في الصيد البحري وحياة البحارة في سعيهم وراء الأسماك والأحجار الكريمة واللؤلؤ والعنبري، دون أن تخل المادة التاريخية الفلكلورية أولاً بتصنيف الرواية كنص سردي عاطفي لم يخل بعذوبته جفاف المادة التأريخية ، ودون أن يخل ثانياً بالسرد الروائي المنساب رقراقاً بأدوات الرواية الفنية التي مكنته من التسلسل المنطقي للأحداث دون إخلال على تركيز القاريء على الحدث الأساسي، والحدوتات المتعددة المنسابة في داخل نفس النص لتصل إلى نهايات عفوية تصب كأفرع متعددة للنهر في جانب تدعيم الحدث الأساسي، دون أن يخل تنقله بين قارات العالم القديم المختلفة أفريقياآسيا وأوربا وأمريكا في الإخلال بأي مفردة في النوتة الموسيقية الناظمة للتسلسل المنطقي والمنظم لأحداث متناقضة تتباعد تارة وتتقارب تارة، لكنها لا تتهم أبداً بتشتيت ذهن القاريء، وهذه هي القمة لما عنتيه بإمتلاك الكاتب لأدواته الفنية، وسبره لأغوار توظيفها كيف وأين ومتى ما شاء…

الجزء الثاني
متابعة لما ذكرناه واوردناه في الجزء الاول عن قراءتنا النقدية والتحليلية لرواية 9 مارس ، نستطيع القول ان الكاتب استخدم كل أدوات العرض المتاحة لكاتب الرواية ، بين السرد الذي هو الخاصية الأهم للرواية، والذي برع الكاتب فيه باستخدام مخزونه اللغوي، والمزاوجة بين المقاطع النثرية والمقاطع الشعرية، مستفيداً من براعته في الصياغة النثرية والشعرية على حد سواء، لذا تكاد تلمس شعرية المفردة في كامل الرواية نثرها وشعرها، ومحمود الشامي بهذا الصنيع من أوائل المهتمين بشعرية اللغة، رغم حرصه على بساطة اللغة والنأي عن التقعر والتعقيد، أكثر من اهتمامه باللغة، بعكس بعض الروايات التي تجعل اللغة في حالة حشو، يمكن معها التخلص من عشرات الصفحات دون أن تختل قراءتها.
وقد وفق الكاتب بصورة واضحة في وضع المقاطع الشعرية في نهاية الفصول لتكون خير تلخيص وبيان للحالة الوجدانية الشعورية للبطل المتصل بكل فصل، وقد تميز أسلوب السرد عنده بعدة خصائص منها:
أولاً: اعتماد السرد على دلالات مكانية وزمانية، فربط السرد بالدلالات الزمانية والمكانية يجعله أكثر تشويقاً، ويمكنه من ترتيب وتنسيق جميع الأحداث التي تتناولها الرواية. .
ثانياً: وقع سرد الأحداث في روايته بشكل متسلسل ومتدرج، رغم أنه بدأ الأحداث من نهايتها، ثم عاد بالفلاش باك للبداية، مما خلق تسلسلاً منطقياً للأحداث الروائية، جعل القاريء مشدوداً مع الحدث الأساسي دوماً، دون أن يتشتت ذهنه مع الأحداث الفرعية.
ثالثاً: استخدم أسلوبا إضافياً وهو أسلوب السرد الخارجي، بربط الأحداث الاجتماعية والواقعية والمألوفة عند القراء ، وربطها مع محتوى النص السردي حتى تفهم واضحة.
رابعاً: نوَّع بين السرد المتسلسل والسرد المتقطع والسرد المتناوب مع آلية ما يعرف بالسرد الحجاجي، وهي واحدة من الفعاليات العقلية للبرهنة ودحض الأفكار المتعارضة مع منطق النص، مع تحفيز الفكر للانتقال من قضية إلى قضية اعتماداً على مايسمى بالاستقراء تارة، والقياس تارة أخرى، والاستدلال الجدلي من جهة ثالثة، لإقناع القاريء بصحة أفكاره، دون أن يخل كل هذا التنوع السردي من الإثارة والتشويق للحدث القصصي الأساسي، مع وجود بداية ونهاية وعقدة وذروة لتسلسل الأحداث.
خامساً: بدت معالم الأسلوب السردي المتقطع في أن تبدأ الرواية من قرب نهاية الأحداث، ونعود بالتدريج عبر الـ(فلاش باك) لبداية الأحداث، دون أن يتسبب ذلك في ضياع القاريء وتشتت أفكاره.
سادساً: لعل من أكبر علامات نجاح الأسلوب السردي في الرواية هو تنوعه ما بين سلسلة متتابعة ومنطقية مع الأحداث تنمو وتتطور مع الأفعال الصادرة من شخوص النص والحوارات بينهم، وحوارها الداخلي: أو ما يعرف بـ(المنولوج الداخلي) بالإضافة لحالات الشخوص الانفعالية التي تربط النص بملامح وجدانية صرفة كالحزن أو الفرح أو الغضب أو الضحك، مما يربط المتلقي بالنص بشكل دقيق لتقارب الحالات الوجدانية لدى الناس جميعاً سواء أكانوا في أوروبا أو أفريقيا أو أمريكا أو أستراليا.
سابعاً وأخيراً: فإن من خصائص الأسلوب السردي للكاتب هو ارتباطه بهدف ما، فلابد لكل عمل روائي من مغزى وفكرة، فالفكرة في رواية 9 مارس توزعت ما بين مناقشة قضية وطنية هي قصة ثورة هذا الشعب ونضاله من أجل التحرر، والذي توج بنصر مايو من العام 1991 واستقلال أريتريا واعتراف الكثير من الدول بها.. والتعبير عن حقبة زمنية محددة من هذا النضال الطويل، وهي شهر مارس وما يمثله ، ففيه عيد (تقوربا) وهو اول انتصار لجبهة التحرر الارترية على قوات امبراطور هيلي سيلاسي ، فضلاً عن بحث متعمق في أحوال اللاجئين الإرتيريين في مختلف منافيهم فهو يمثل يوم هجرت فيه اسرة رحمة موطنهم الاصلي وبلدة برعصولي .
ولم يعتمد الكاتب السرد وحده إذ كسر من رتابة السرد أحياناً بالوصف، وأحياناً بالحوار، فالوصف في هذه الرواية تنوع بين وصف الزمان ووصف الأماكن ووصف الأشخاص، فمن بين وصف الزمان في رواية 9 مارس تركيزه على إلقاء الضوء على حقب تأريخية محددة كوصفه لمدينة برعصلي عبر لمحة دالة تقع في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ومع ازدهار التجارة وحركة النقل البحري بين ضفتي البحر الأحمر، وتحديداً بين مينائي عدن ومصوع، لعبت برعصولي دوراً مهماً، وأهَّلها موقعها للعب هذا الدور، فهي تقع في منتصف المينائين، وكذا بسبب جغرافية المنطقة الجيدة والمناسبة لحماية السفن وحمولتها من هيجان البحر جراء الرياح والعواصف والمد البحري، ولهذه الأسباب اختيرت البرعوصلي أو (برالصولي) كمحطة وصل لاستقبال السفن القادمة من، أو المتجهة إلى عدن، والمتجهة أو القادمة من موانيء محلية، كمرفأ عدي وطيعو ومرافيء بوري وصولاً إلى الميناء الهام والرئيسي مصوَّع.
ومثلها وصف حقبة من تاريخ تاجورا وملامح من خضوعها للعثمانيين والفرنسيبن وحروب امارة تاجورا مع الامارات والامبراطورية الحبشية،، وانتصار امارة تاجورا الاسلامية ذات مرة رفقة فرسان مملكة البلو اللذين قدموا من غرب ارتريا وشرق السودان لنصرة سلطنة تاحورا العفرية ،،، وتناول الكاتب ما أسسه اجداده العفريين من مجد تليد في هذه الامارة العفرية الاسلامية ، إضافة إلى وصف ملامح من تاريخ الحرب العراقية الإيرانية في العراق، أما وصف الأماكن فقد رأينا براعة الكاتب فيه وكأنما كان يتنقل بين الأماكن بكاميرا سينمائية تلتقط كل المشاهد وتضيء المكان وكأنما المتلقي يشاهد شريطاً سينمائياً، حيث كان الموعد الأول لنا في عرس فندق المدينة، عند أحد أصدقاء (ناصر)، فوصف لنا المكان وما يضج به من مظاهر الترف، والثراء، ومظاهر الاحتفال وشيء من المأكل وما تزينت به النساء من ملابس وأكسسوارات، وأغاني العرس البناتية وما كادت أن تودي له من معارك بسبب التفاخر بالأنساب، لولا تدخل العاقلة الرزينة (زهرة) إحدى أساطير مجتمع تاجورا المؤثرة، ذات الكاريزما والأثر الفعال في نفوس الكبار والصغار على حد سواء.
أما وصف الأشخاص فقد كان قمة في الروعة حيث تعرفنا على ملامح منه في الجزء الأول من هذه الدراسة، في رسم الشخوص الروائية – أساسية وفرعية – بدقة متناهية، تحمل كل ملامحها الشخصية والنفسية الوجدانية، خاصة عند غوصه في معالم شخصية (زهرة تاجورا) الأسطورية، التي ربطها بأمشاج من تأريخ هذه المدينة الأسطورية، على مر العصور.
وأضاف للسرد والوصف عنصراً ثالثاً هو الحوار المتناثر هنا وهناك بجمل قصيرة وفاعلة ونابضة بالحيوية والواقعية اللغوية، بلغتها البسيطة التي تتلون بين الفصاحة والبساطة بحسب قدر المتحدثين ومستواهم الثقافي والتعليمي، إذ حرص الكاتب على ألا يساوي لغة خطاب العوام، بلغة المثقفين الجامعيين من أمثال رحمة وناصر وبقية الشلة، فظلت قمة إبداع لغة الحوار في إنزال المتحدثين منازلهم الحقيقية، كما هي في الواقع.. وبذا استغل الكاتب كل أدوات العرض، مع لغة فصيحة إلا أنها تخلو من الوعورة والتقعر، ونصوص شعرية جميلة تزين خاتمة الفصول.
وللحديث بقية إن شاء الله في الجزء الأخير……

الجزء الثالث..
نتناول في هذا الجزء الثالث والأخير من هذه الدراسة الحدث الروائي في رواية ٩ مارس، فالحدث هو مجموعة الوقائع والأحداث المتعلقة بكلّ جزئيات وتفاصيل الرواية، والتي يجب أن تكون مترابطة مع بعضها بشكلٍ خاصّ، وهو ما يُطلق عليه اسم الإطار العام للقصّة أو ما يسمى بالحبكة الروائية، وهو بمعنى آخر أن تكون شخصيات وحوادث السرد مترابطٌ بعضُها مع بعض بشكل منطقيٍّ وسببيٍّ، ويجعل منها كتلة صمَّاء ووحدة متماسكة لها دلالات محددة، والأحداث المسرودة ضمنَ إطار الحبكة سرداً أدبياً فنياً متسلسلاً بصورة منطقية، تشابه تفاصيله واقعنا المعيش في تفاصيلها، بعيداً عن الخوارق والمبالغات.
ويمثل الحدث الأساسي في هذه الرواية ذلك المشهد الأول الذي يبدأ من نقطة قرب نهاية الأحداث، والمتصل بالتبدل المفاجيء لحال بطلة الرواية (رحمة) إلى شخصية انطوائية بعيداً عن طبيعتها الأولى، كشخصية ذات طبيعة اجتماعية مرحة تملأ الابتسامة أساريرها دائمًا، وقد استطاع الكاتب من هذه النافذة الصغيرة التي أتى بها مبؤرة وشديدة لفت الانتباه، تشكيل بناء كامل متكامل لروايته بالمهارة القصصية التي يتمتع بها، واستطاع أن يكثف هذا الحدث الأولي في ذاته، ليصل عبره لعمارة قصصية متكاملة البناء، بالتدرج في التفصيلات بكل جزئياتها حتى لا يثقل القصة، ويؤدي فعله إلى تشتيت لقطتها التي تحتاج إلى التبئير الشديد، لنتعرف بعد ذلك على ما أسماه بـ(لعنة مارس) التي حلت بها كـ(لعنة الفراعنة) التي حيكت حولها الأساطير، وحولت حياتها إلى جحيم تلخصه بقولها: تنهدت وقالت بألم وبنبرة حزينة: (التاسع من مارس، لن تمر ذكراك عابرة، ولم تكن يوماً عادياً، لا أعرف ما الذي جعلني تركته يمر، كان عليَّ ألا أدعه أو لا أدع نفسي تمر إلى يوم آخر، لكنه مرَّ.. وأنا توقفت عنده، ووقف كل شيء بداخلي ومن حولي، ومن يومها لا وجود لذاتي، مات كل شيء بداخلي، وشلت جميع حركاتي وسكناتي، أعيش جسداً بلا روح، أو بالأحرى: لا أعيش).
ورغم أن مارس في مطلع هذه الرواية ذكرنا أنه ذكرى سعيدة للشعب الإرتيري الذي تنحدر منه رحمة، لانه مثل الشرارة الأولى لحركة التحرر الإرتيرية، التي وصلت لغاياتها النهائية بتحرير الأرض وقيام الدولة الإرترية التي كانت حلم كل اريتري، إلا أنه تحول إلى شهر كآبة وشقاء بالنسبة لبطلته رحمة، إذ أنها فيه التقت بحبيبها أمان الذي حول حياتها إلى جحيم لا يطاق، لم يشفع لها أنها ضحت في سبيل الارتباط به بأسرتها كلها، حيث ذهبت وتزوجته بالمحكمة ضد رغبة والديها وأخيها وأصدقائها وصديقاتها الذين حدثوها كثيراً عن أن أمان ليس الشخص المناسب لترتبط به، لأنه ببساطة زير نساء، وفيه بعد ثلاث سنوات من زواجهما وانجابها أول طفلة خانها مع (الخادمة)، ورغم ما بذله من أيمان مغلظة بالله وبغلاوتها وبغلاوة طفلتيهما بعدم العودة مرة أخرى لطريق الخيانة، عاد مرة أخرى في مارس بعد وصول علاقتهما لسنتها العاشرة وأثمرت عن طفلتين، ليخونها مرة أخرى ومع من؟ مع صديقة عمرها (أحلام)، وهي الحادثة التي قصمت ظهر بعير علاقتها مع أمان، وأجبرتها على مفارقته إلى الأبد في مارس، رغم أن فراقهما تأخر كثيراً، إذ أنها ضحت عدة مرات بالبقاء معه رغم ما تكشف لها من علاقاته الطائشة مع النساء، حفاظاً فقط على أسرتها، وتضحية من أجل بنتيها حتى لا تتأثرا بفقد الأب.
إلى جوار هذا الحدث الأساسي كانت ثمة أحداث أخرى تدور مجاورة، تبدأ وتتفرع إلى حين، لكنها سرعان ماتتحول إلى نهر صغير يصب في بحر الحدث الأساسي لتعمِّق جانباً منه، أو تكشف عن دنيا من المعالم الوجدانية المرتبطة بالحدث الأساسي؛ منها الأحداث المتعلقة بأربعة رجال كانت حياتها تدور في فلكهم ويؤثرون في حياتها كأنثى، يراقب سلوكها الجميع، ظناً منهم بأنها كامرأة إنما هي مجرد وعاء زجاجي قابل للكسر، يخشى عليه من الوقوع في المحظورات وتابوهات العيب وسوء السمعة والشرف، ولعلَّ أكثر ما كان يضايقها منذ الصغر هو إحساسها المبكر بالتمييز بينها وبين شقيقها الأصغر إدريس، ففي مقابل البراحات الرحبة التي لم تكن تحدها حدود في تعامل الوالد مع ابنه إدريس بثقة مطلقة، حتى ولو غاب من البيت ليالي وأيام، كان ذلك الحصار المحكم المفروض حولها من أبيها، ومن أخيها إدريس عند غياب الأب، كأنما بينهما اتفاق ضمني بأنه الوريث الذي يرث كل ممتلكات الوالد في غيابه، بما فيها قطعتا أثاث من ممتلكاته هما زوجته – التي هي أمه – وأخته رحمة، وبالرغم مما في قلبها من يقين راسخ بالحب العميق الذي كان يكنه لها أبوها، وبأنه لم يكن يتأخر لها عن شيء تطلبه صغيراً كان أو كبيراً، لدرجة أن أمها وأخاها كانا يمرران طلباتهما عبرها، لثقتهم بأن طلباتهما ستكون مستجابة إذا تبنتها هي، إلا أنها كان يتملكها إحساس في بعض الأحيان بأن أباها لا يحبها، ويتعامل معها كمتهم مدان حتى تثبت براءته، وكان مما يذهلها أيضاً أن أمها الحبيبة التي لاتشك لحظة في قلبها المحب لها، كانت تراها كطرف متواطيء أيضاً في هذا الحصار المضروب عليها، لم تكلف يوماً نفسها بالوقوف إلى جانبها، إذ كانت موافقة ضمناً، بل متواطئة معهم أيضاً في ضرب سياج محكم من الحصار والتدخل في أخصَّ خصوصياتها.
كان والدها أول رجل تدور حياتها في فلكه، وقد عرفته أباً محباً وعطوفاً على أسرته، يفعل كلما في وسعه من أجل أن يوفر لها ولوالدتها وأخيها حياة كريمة، في بلد ليس هو مسقط رأسهم، اضطرتهم الظروف لأن يلجأوا إليه ساعة ظروف إنسانية استثنائية بسبب الحرب، وقد وفق الوالد كثيراً في التجارة، بقدر وافر من الثقة والأمانة والصدق وحسن التعامل مع زبائنه، التي كانت العامل الحاسم في نمو أعماله، أكثر من أي عامل آخر، وبفضل ما توافر له من ثروة نقلته إلى مصاف الميسورين، مما هيأ له تملك منزلين بالعاصمة جيبوتي، خصص الأكبر منهما والأجمل والذي يقع بالحي الأرقى لسكنى أسرته، بينما أجر الآخر لأسرة ليعينه على أعباء المعيشة،

الرجل الثاني في حياتها هو شقيقها الأصغر إدريس، والذي درس معها في كل المدارس من الإبتدائي إلى الثانوي الذي كان آخر محطاته في الدراسة، ليس كصديق دراسة حميم لها، بل كرقيب عليها، كأنما سلطه الوالد عليها كرقيب عتيد يحصي عليها أنفاسها، ويتعامل بعدوانية كبيرة مع كل طفل ذكر يقترب منها، بما في هؤلاء صديقهما المقرب (ناصر) الذي ظلت أمهما صديقة مقربة لأمه، وكان هو منذ طفولتهم في الحارة أخا لهما لم تلده أمهما، وزميلهما في الدراسة منذ الابتدائي وإلى الثانوي، ولم يفترقوا إلا في مرحلة الدراسة الجامعية فقط، إذ كان إدريس يضايقه قرب ناصر من أخته، وينظر إلى تقاربهما العاطفي الأخوي بعين الريبة كجريمة مكتملة الأركان، رغم أن ناصر كان يتعامل بتهذيب وافر مع أخته، لذا كان يفعل كل مافي وسعه للمباعدة بينهما، باذلاً في سبيل ذلك جهداً عظيماً لو وفر نصفه لدراسته لكان من الأوائل على صفه، وبرغم كل ذلك الحصار لم يكن يفلح إلا قليلا في إبعادهما عن بعضهما، لأنه في نهاية المطاف هو ابن خالة صديقتها وتوأم روحها فردوسة، يقضون ثلاثتهم رحمة وناصر وفردوسة يومهم كاملًا بعد الدراسة في منزل فردوسة لا يفرق بينهم سوى مداعبة النوم الأجفان.
أما الرجل الثالث الذي دارت حياتها في كنفه، فهو صديق طفولتها وحياتها ناصر، وقد كان قلبه يميل لها ويتشوق للارتباط بها، إلا أنها قد فاتحته منذ وقت مبكر بمنتهى الدقة والصرامة والوضوح بأنها لا تكن له إلا مشاعر الأخاء، وأنها لا تتصًوره إلا في صورة شقيقها إدريس، رغم أنه أول من تعرفت على يديه بأنها أنثى جميلة ومرغوبة ومكتملة النضوج، وأن لها تميزها الخاص على كل بنات جنسها، وأول من سمعت من شفتيه كلمات الغزل البكر التي أدارت رأسها وأشعرتها برعشة العاطفة، وقد تقبل منها هذا الصدود بصدر رحب احترم مشاعرها كجنتلمان، رغم ما يعانيه في الداخل من مرارة الهجر والحرمان، ولم يبق له أمام هذا الرفض سوى أن يعزل نفسه بعيداً منها، فاختار منحة دراسية كمنفى اختياري له خارج الوطن بجامعة العلوم والتكنولوجيا بالسودان، حيث شغل نفسه طوال اليوم بالدراسة الأكاديمية، وبدراسة إضافية ليلاً لآلة الكمان في معهد خاص، لعله يتلهى عن جرح قلبه الغائر بفراق الحبيب الذي اعتاد لقاءه يوميا منذ نعومة أظافره، ليجد كل السلوى في أغنيات أمير العاشقين هاشم ميرغني الذي لطالما كان مأوى لكل المعذبين في الأرض الذين يعانًون من هجر الحبيب، فامتلأ حد الثمالة بقالو البعيش في الدنيا ياما تشوفو .. تسقيه بي فرقة عزيز .. بالحسرة ريقو تنشفو .. وانشالة ما يحدث فراق لي قلوب بعد ما اتولفو، وأغنية زيدان شلت الجراح والابتسامة وكل حرمان اليتامى.
ويعود من بعثته بعد ٤ سنوات ليصافح مسامعه أن حبيبته اختارت (أمان) زوجاً لها، فيختار هو تحاشي الأوبة للعاصمة، ويختار مدينة تاجورا كأول مقر عمل له بعد التخرج فور عودته إلى الوطن، وكان محظوظاً، فوالي تاجورا الجديد صديق مقرب لوالده وساعده في مسعاه والابتعاد عن العاصمة والحي الرابع ورحمة، وتم توظيفه في مقر محافظة تاجورا وفي موقع مقبول، سوى أنه حتى في تاجورا سقط في قصة حب أخرى من طرف واحد، متعلقًا بزهرة تاجورا ذات الجمال الأسطوري، وقد حذره من السقوط في براثن هذا الحب قبل أن يتورط فيه صديق مقرب له من أبناء تاجورا نفسها، إذ أنه بذل له نصحاً مبكرا بأن زهراء هي لم ولن تكون أبداً حكراً على شخص واحد يستأثر بها عن سائر أهل المدينة، ومن المستحيل أن يكون هذا الواحد هو أنت بالذات، لأنك لا تمثل إلا غريبا جاء ذات ظرف إلى هذه المدينة، ودماء تاجورا لا تجري في عروقك، ويعلق ناصر: صديقي حمد يعرف مدينته حقاً، ويعرف أنها ستفعل المستحيل وتقاتل من أجل زهرة، وتصل في دفاعها عنها إلى أبعد الحدود، وقد تصل إلى حد القتل وابتلاعها إن لزم الأمر، وإن لم تستطع حمايتها والدفاع عنها وقد كان.
أما الرجل الرابع والأخير الذي سارت في محيطه حياتها، فهو (أمان) زوجها وأبو بنتيها، وقد تحدثنا باستفاضة عن علاقتهما في الجزء الثاني.

انتهى…

Related posts

Leave a Comment