سر النجاة
– ورد….اسم جميل، سيحتل حيزا واضحا على مساحة الشفاه التي ستنطقه، “ورد” سيطير…..ويسير…..ويمرح….وربما سنلعب معا…..
هكذا كانت “سمر” تخاطب والدتها فرحة مبتهجة بالطائر الصغير القادم، فهو يختبئ في البيضة الصغيرة، ويرفض أن يغادرها حتى يأذن له والداه.
و بتأثر كبير كانت والدة سمر تستمع لحكايات ابنتها عن هذا القادم الجديد. هذه الصغيرة طار لبها منذ رأت زوج حمام بنى عشه أعلى شجرة صفصاف، وكانت شرفة بيتهم تطل عليها، فكانت سمر تقترب من السحب ….من الحلم، بل الأهم من ذلك من زوج الحمام وضيفهما الجديد الذي ينتظرانه على أحر من الجمر، لكن يبدو أن الصغيرة قد لفها شوق لرؤيته أكبر من شوق والديه ، فكانت طوال الوقت تتمتم:
– ” ورد” سيكون له أب وأم….إنه سيتمتع بمحبة اثنين معا، سيفرحان بلقائه وبرؤيته ، وسيحضران له اللعب والمأكولات اللذيذة وكل ما يطلبه، حتى وإن كانت لعب الطيور تختلف عن لعبنا لكنها بالنهاية تبقى لعبا سيتمتع بها صغارهم وكذلك المأكولات اللذيذة.
سكتت قليلا ثم تساءلت وهي تنظر إلى أمها:
– مثل ماذا يكون الطعام اللذيذ عند الطيور يا أمي؟ هل هو دودة سمينة محمرة مثلا ؟ أم أعشاب خضراء مجففة؟
ضحكت منها أمها وضمتها إليها بقوة، ولم تعلق على سؤالها سوى بقولها :
– ربما.
لكن الطفلة لم تقنعها هذه الإجابة، فأطلقت زفرة من صدرها الصغير، وغاصت عيناها في بحر من الدموع وهي تنظر إلى أمها تارة، و إلى زوج الحمام تارة أخرى وتتعجب.
وفي مدامعها النازلة قرأت كل الحكاية، والدتها التي يحتل قلبها زخم من الذكريات المريرة، وإن كانت عند بدايتها عذبة جميلة، غير أن نهر الحزن ما إن تمر عليه الذكريات ، حتى يستل منها جمالها ورونقها، ناشرا سواده على جنبات الضلوع.
زهرة، كم كانت تحلم بالحصول على شهادة البكالوريا والانتقال إلى الجامعة، لدراسة الأدب، أدب تشربته قلبا وقالبا، كانت تريد أن تكون أديبة متميزة، تقدم أدبا مؤدبا في زمن صارت الكلمات فيه تجارة، وصار الأدب غير مؤدب، وصارت صورة النص عفنة تشمئز منها النفوس الكريمة.
– كم سيكون وجودك في عالم الأدب رائعا يا زهرة، لكن لم لا تحاولين الكتابة؟ فليست الشهادة الجامعية شرطا لتكوني أديبة ، فالأدب نبع فياض صاف، تجود به نفس طاهرة تتحسس الجمال برهافة حسها ، فتوزعه نغمات عذبة بين أزهار الوجود، ولذلك أنت هنا يا زهرة، لتنقلي لنا عبير الزهور، وكلام الزهور، لأنك من نفس فصيلتها.
كلمات رضا هذه، كم كانت جميلة ، وكم كانت رقيقة تخترق شغاف قلب زهرة،فولجت عذوبته قلبها، وتفلعت ذكراه في خلدها بتجاعيد الفرح، حتى تعلقت به حد الشغف والهيام.
هو أستاذها في مادة الأدب، بل أستاذها في الأدب نفسه، حيث كان يصحح لها صورا جميلة كانت تصبها أنغاما عذبة على الورق، لتؤلف منها أغنيات رقيقة، تضاهي رقة الطبيعة بأزهارها وأطيارها، وكانت زهرة تغفل عن إبصار مثل هذا الجمال في كل ما تكتبه، فقد كانت تعتبر محاولاتها سيئة، على عكس أستاذها، حيث كان يرى فيها كل الجمال، جمال يختصر طهارة النفس والوجدان، فالبنسبة إليه ذلك شرطان لازمان لإبداع أدب طاهر عفيف يرمي إلى التأديب، إلى البناء، إلى الأخذ بأيدي الناس نحو المجال الصحيح، ليكتشفوا جمال الكون الفسيح ، بنجومه وأقماره وأطياره وأزهاره.
بقيت زهرة تتأمل الكون الفسيح، فتقطف منه أجمل النبرات، وظلت تحلم بالبكالوريا وبشعبة الأدب، وبقصور جميلة في عالم الاحلام الشاسع، لكنها وفي طرفة العين، بدأت تبتعد شيئا فشيئا عن قصورها الجميلة، واستيقظت على حقيقة الفقدان، وكم تؤلمنا هذه الكلمة ومعانيها المريرة، فالفقدان يعني الحرمان، وأي حرمان هذا أشد علينا من أن نحرم مما نحب ونأمل، وقد فقدت زهرة حلمها الجميل وآمالها الحبيبة حين لم تحصل على البكالوريا، فتكسرت آنية النسيم بيد قدر قاس في نظرها، وتراجعت أطيار قصورها الجميلة إلى الخلف، حيث حل شتاء الدموع بساحتها، فاستسلمت للأمر الواقع بعدما تسلمت صبرها، ورضخت لقوانين وأعراف يفرضها عليها زمنها ومكانها الذي نبتت فيه.
وكان العرف يقضي أن تتزوج الفتاة التي لم يسعفها الحظ لإتمام الدراسة بالجامعة، ولم يضغط عليها أبوها لقربها من قلبه، بل ترك لها حرية التفكير والاختيار.
ولم تبك زهرة من عرف منطقتها وقراراتها الغريبة، لأن رضاها حاز عليه من تعلقت به حد الجنون، فكان الاجتماع الجميل، واللقاء الأبدي المفعم بالحنين، واستمرت فراشات الكلمات الرقيقة تنتقل بينهما كموشحات رقيقة، تعزف أنغامها ورود الكون، وتغني كلماتها أطيار الحنين، كما امتدت حبال الأدب أكثر صلابة، لتتجسد في سلوكاتهما كعنبر يفوح عطرا ويغزو جميع الأجواء.
فرحا كانت حياتهما، وسرا بديعا من أسرار الجمال، وأضفى عليها ميلاد الطفلة “سمر” رونقا لا يضاهى.
– .لو كانت ذكرا لأسميتها أدبا.
– ولكنها أتت ، سمر…..لتكون الأنيس، وتكون الأدب والجمال.
ودققت النظر فيها ثم قالت:
– كم هي جميلة يا رضا .
– إنها تشبهك.
– لذا أنت تحبها؟
ابتسم رضا من قولها، فاستنار وجهه كأنما هو قمر فر من ظلمة الليل ليقف أمام شمس النهار.
ظلت زهرة تكتب ، لكنها سرعان ما كانت تمزق ما كانت تكتبه، ، ربما فقدت فن التعبير، أو هو بكاء الطفلة عاق الكلمات عن البروز والانسجام.
– إنه التعب….. أتركي هذا لفرصة أخرى.
حاول زوجها أن يخفف عنها لما رأى زخات حزن تطفو على سطح وجهها الملائكي.
– ولكن أريد أن أكتب شيئا.
– إذن أكتبي أحبك….
– لمن لسمر أم لك؟
– لا يهم لمن، فالكلمة رائعة، ميزانها ثقيل، وجودها فقط يجعل منها أميرة على كل القلوب.