جزء من قصة “الغريقة الناجية”
من مجموعتي القصصية ” مروج الأماني”
تلفحني بنارك، يوم ودّعت سجاياك الأنيسة، يوم تدرّجت في اتّهام الأنا المسكينة، و ما ذنبها، سوى اصطحاب لبعض من حلم.
شاهدتك يوما تناجيها، هناك خلف شفق كئيب، يختار ظهوره عندما يمتزج الأبيض بالسّواد، شاهدتك يومها تبكي ذكراها، وتَرجُمُ نفحة المسرّات الّتي جمعتك بها، فكم تتلفّع تلك الذّكريات…. المسرّات، بثوب غمّ يجرّه نظر إلى الوراء، إلى قهقهات بريئة، كم تبادلتها جدران حديقتكم المورقة بكلّ حنين، فكانت تزهر في مُناك العبرات، حينما كنت تتصفّح وجه السّماء، و هي تقودك في حنكة إلى أوّل لقاء.
كان الأزرق بينكما، و كان الصّفاء. التفتّ خلفك ، فكان صوتها يناديك، و كان البحر يجتهد في ضمّها بين جوانحه، و كان الصّوت المفزوع يهدأ شيئا فشيئا، حتّى خفت، و ظلّ الجسم النّحيل طافيا فوق سطح الماء، و نظرك مشدوها إلى خيال ماثل بين عينيك، و إلى صوت نائح بين يديك.
كدت تصعق، لمّا تصافح صقيع جسدها الصّامت مع راحتيك. حملتها، وصار حلمك أن تفتح عينيها من جديد، لتستلم الحياة ورونقها، والعبير بهجته، لكنّها كانت كأنّما تعاند رغبتك بالسّرور، فأبت أن تفتح عينيها، فحاولت بتلقائيّة ضميرك أن ترغمها على ذلك، حين وظّفت خبرتك في الحماية المدنية، وجميع فنون السكوريزم التي تعلّمتها من قبل، فنجحت أخيرا في إرغامها على الحياة من جديد.
ها هي حمرة بديعة تغزو وجنتيها، بعد أن شربت رئتاها بعض هواء، وتأخّر الإسعاف عن الوصول إلى المكان، فاقترح أحد مرافقيك أن تصطحبها إلى بيتك لأنّها كانت على طريق والديها، و كان لابد لها من إسعاف فوريّ، إذ كان بيتك الأقرب في المكان. فأخذتها معك، وشاهدت استنكارا لدى والديك، و حتىّ أختك الّتي تزعم أنّها تفهمك كثيرا، لم يرق لها منظر فتاة غريبة بصحبتك، لكن سرعان ما فهم الجميع بأنّها تكاد تكون في حالة احتضار، هالات سوداء تنزل تحت عينيها، وصقيع بلل يختلي بلباسها.
- كأنّها كانت وسط مياه البحر.
- هذا فعلا ما حدث. أسعفوها من فضلكم.
و في طرفة العين، أحضرت لها أمّك شرابا ساخنا، بعدما ساعدتها أختك على تغيير ثيابها المائيّة، لكنّ تلك الغريقة الناجية، لم تلتفت لما حولها، فقد بدت مستغرقة في تفكير عميق.و كان عمق تفكيرها، يزاحم عمق جرحها في شدّته، و هو يمهّد مساحة شاسعة من الألم في قلبها.
ناولتها أختك الشّراب السّاخن برفق، فلم تنتبه لذلك، ربما كانت الأصوات تحجب رؤيتها، كأنّما صارت هذه الأمواج الصّوتية جبالا مظلمة، تنشر ليلا كئيبا بحجم مأساتها، فأغمضت عينيها، و بدت أنّها تغط ّفي نوم عميق، والواقع أنّها كانت تتأوّه في سرّها بألم فظيع، حين حضرتها صورة والديها وهما يغرقان.
في اليوم التالي، توجّه ناجي على رأس مجموعته و فرقة من الشّرطة، لاستخراج الجثّتين وللتّقصّي، ولم يكن لنورة القدرة على مرافقتهم، فبقيت بالبيت رفقة راضية شقيقة ناجي.
بدا لحم الضّحيّتين أبيضا طريّا قد تشرّب من مياه البحر، واختلفت الملامح، فلم يبق منها سوى رسوم باهتة، فتلبدت ملامح ناجي بغيوم رماديّة، واستقلّ أساه ليرحل في حاضر فظيع.
ما الّذي حصل لك يا ناجي؟ لم تعد أبدا كما كنت من قبل، فقد تملّكتك أحاسيس غريبة لم تتعوّد نفسك عليها فيما مضى، ففيها ما يشبه الحزن، و فيها ما يشبه الشّفقة، ومنها ما يوحي بالألم، لماذا؟ ألم تتعوّد على مثل هذه الحكايات يا ناجي ؟ حكايات موت يضيف كلّ يوم ضحايا إلى رصيده ؟ أم هو منظرهما المفزع الذي أحزنك ؟ ألم تتخلّص بعد من عقدة الفزع ؟ لقد شاهدت مناظر أفظع من هذه؟ فهذه جثّة لصغير احتفظت حيتان البحر برأسه، و تلك سيقان ترتمي بين أحضان الحجارة، و ذلك رجل أو امرأة، اكتفى القدر أن يبقي منهما شيئا مشوّها للذّكرى.
لِمَ اختلفت لديك الرّؤيا اليوم؟ ألأنّك تعرف أنّ هناك قلبا يتفطّر حزنا من منظرهما؟ أم لأنّهما ودّعا فتاتهما في لحظة لم يختاراها، بل و بغير رغبة في وداع أبدي؟
آه يا منظر الموت على أجساد الحيارى، حين تغادر هذا العالم بين أحضان ماء أبيض لطيف، كم يبدو رحيما في مظهره، و كم يبدو خفيفا في حمله، يتلألأ صفاء و طهرا تحت أشعّة الشّمس، وهو يكتم غدره حين يمد يديه عبر المدى، ليصافح أجساد الأبرياء في حميميّة، ثمّ لا يتوانى في امتلاكها أبدا حتى تفارق الرّوح.
يا سرّ هذه الحياة الغريبة، يا من أودعك الرّحمان رسوما اختارها هو، و لم يخترها أحد سواه، أيّتها الروح، ما سرّ هروبك المفاجئ من جسد أحوج ما يكون إليك لتنقذي أنفاسه بداية الاختناق؟ ربما حينها يفضّل الماء أن يأخذ مكان الهواء و يغزو الرّئتين، هي سلطة القويّ على الضّعيف، أو هو حبّ التّملّك و إن كان لحظيّا، أو هي رغبة جامحة في سلطة القوّة، وإن كانت مؤقّتة.
– تحضرني لحظاتها المذعورة، تلك الباكية بصوت من أنين، أكان أنينها على منظرهما المفزع لحظة فراقهما بعضا من هواء ؟ أم هي رغبة أصيلة منها في الدّفاع عن البقاء ؟
غريزة حبّ البقاء، تلك الّتي حدثت لأجلها كل الصّراعات، و تهيّأت بسببها أمم لحروب شرسة لأجل حبّ البقاء، و كم تهدر من دماء ظلما، لحبّ البقاء، وكم تغتصب من حقوق جهلا، لحبّ البقاء….وكم….وكم….، و لهذه الجملة المتآلفة من كلمتين تعريفات عدّة، كلّ حسب نظرته، إن ظالما فهي حق له في كلّ شيء، حتّى في رقاب الآخرين، في نسائهم و في أموالهم، وإن عدلا، فهي الحفاظ على أدنى نقطة من حياة كريمة، تمكّن من أداء رسالة ربّ الأرض والسماء.
استخرجوهما من وسط البحر، وصار دمعه يتقاطر، فتعجّب رفقاؤه منه، فليس من عادته البكاء، كانا مسجّيان على لوحتين خشبيّتين محشوّتين ببعض قشّ، فلمّا نظر إليهما، تضاعف نحيبه.
…….