بقلم / الباحثة ميادة عبدالعال
إزاء هذه التموجات الهائلة، والتغيرات الفائقة في معاني الحياة ومعالمها، يجد المفكرون المعاصرون أنفسهم من جديد أمام تحديات كبيرة تتعلق بمصير الإنسان وغائيته الإنسانية في خضم هذا التحول الإنساني الذي أفقد الإنسان توازنه الأخلاقي، ومن جديد بدأ هؤلاء المفكرون يطرحون سؤال الاغتراب الإنساني، الذي كان قد شكل في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين محور اهتمام كبار المفكرين أمثال: روسو وماركس وأنجلز وماركوز وهيدجر وجان بول سارتر. ولا تختلف الأسئلة الاغترابية التي يطرحها مفكرو اليوم كثيرا عن مثيلاتها بالأمس، ومنها: أين هي الغايات الإنسانية والأخلاقية للتقدم المادي الهائل في طبيعة الحضارة الإنسانية القائمة؟ وأين هو مكان الإنسان في دائرة هذه التحولات الإنسانية الكبرى؟ ولكن الأبحاث في مجال علم النفس حول مفهوم الاغتراب استدركت ما فات الماركسية إذ عملت وبصورة مستمرة على تحقيق التوازن وإعادة الاعتبار إلى الجوانب السيكولوجية للمفهوم في دائرة التوازن والتناغم من المعطيات السوسيولوجية والسيكولوجية. وفي ظل التطورات الفكرية الجديدة فإن التيارات الفكرية الحديثة تعمل باستمرار على تحقيق المصالحة والتوازن بين مفهوم الاغتراب الماركسي ومفهوم الاغتراب في التحليل النفسي؛ فالإنتاج الإنساني لا يقف عند حدود الاقتصاد فحسب بل يرمز إلى الفعالية الإنسانية برمتها، ويجسد في الوقت ذاته قدرة الإنسان نفسه على توليد المعطيات المادية والنفسية .
فالإنسان كما يقول هنري ليفيبفر “يؤثر في الطبيعة ويتأثر بها وهو عندما يغيرها يتغير معها في الآن الواحد، وبالتالي فإن العلاقة النشطة بين الإنسان والطبيعة لا تنطوي على خفايا وأسرار لأن هذه العلاقة تتم عبر العمل بصورة مركزية، فالإنسان يستطيع عبر العمل أن يتجاوز حدود الحياة العفوية المباشرة في الطبيعة، فهو ينتج ويبدع أشياء متعددة، وهذه الأشياء تلبي حاجاته، ولكنها في الوقت نفسه تولد حاجات جديدة دون انقطاع، وهي في الوقت نفسه تعمل على تعديل الحاجات القائمة، وفي مجرى تحقيق الإنسان لذاته في عالم الأشياء.
فالإنسان كينونة جوهرها الروح والعقل، وكل ما من شأنه أن يمس هذه الأبعاد الأساسية لجوهر الشخصية يدفع الشخصية إلى حالة اغتراب واستلاب. فالاغتراب هو الوضعية التي ينال فيها القهر والتسلط والعبودية من جوهر الإنسان، وهو الحالة التي تتعرض فيها إرادة الإنسان أو عقله أو نفسه للعتداء والتشويه. وبالتالي فإن أدوات الاغتراب هي مختلف أدوات القهر، وكل ما من شأنه أن يعيق نمو الشخصية الإنسانية وازدهارها وتفتحها. وتتبدى مظاهر الاغتراب في أشكال أحاسيس مفرطة بالدونية، واللامبالاة، والقهر، والضعف، والقصور والسلبية,الثقافة مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقا من طبيعته العقلانية، وبهذا تكون الثقافة في نظر كنت أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول بأن الثقافة تعني حضور الإنساني في الطبيعة، وانتقاله من عالم الضرورة والحتمية إلى عالم العقلنة والسيادة، إنها بالأحرى عملية وضع الإنسان في مركز الكون بعد أن كان يدور في الهامش والأطراف؛ وهذا يعني أن تقدم الثقافة يتحدد بتقدم العقل والحرية والمعرفة الإنسانية. والإنسان كما يرى كانط ” ميال بطبيعته إلى الحرية، بحيث أنه عندما يفقدها يكون مستعدا لأن يضحي بكل شيء من أجلها