قراءة. -عفيف قاووق.
رواية ناريا للكاتب القطري حسن علي أنواري صدرت حديثا عن مؤسسة أبجد العراقية. يخال القارىء انه امام رواية تاريخية أسطورية تتحدث عن مملكتي ناريا وبابل وصراعهما الدموي لكن وانت تتوغل في تصفحها يتبادر لذهنك سريعا إمكانية اسقاط أحداث هذه الرواية “الخيالية” على أحداث واقعية شهدناها في الماضي القريب وربما لا نزال نشهد مثيلا لها في أكثر من بلد وفي غير منطقة من هذا العالم.
وبالرغم من أن الرواية بحسب ما احتوته من أحداث تشير إلى فترة زمنية غابرة تعود إلى أيام ممالك بابل، بيبلوس وناريا، إلا ان ما قدمته لنا لا يختلف كثيرا عن ما نعيشه من أحداث وصراعات في منطقتنا العربية حتى لا نقول في أكثر من منطقة في العالم حيث الصراع على ترسيم الحدود فيما بين الدول هو الشرارة لإندلاع صراعات قد لا تنتهي رغم ما تخلفه من مآسي وخسائر في البشر والحجر معا.
بالعودة إلى الرواية وفي إطلالة سريعة نكتشف أن الكاهن “ينماخو” انقلب على ملك ناريا بعد سلسلة من خطب التحريض وتحفيز الشعب، لتقوم ثورة دموية تحت قيادته، وفي صراعه مع الملك إبتدع عقيدة ومقولة ” روح دموزي الإله” وإلى حين ظهوره فسيكون هو ظله في أرضه. وبدأ بإصدار أوامره “الإلهية” بتصفية واعدام معارضيه ومناصري الملك المخلوع. ولأجل إحكام سيطرته على عقول الناس أشاع بينهم مقولته الشهيرة:” أنا روح دموزي، وظله في أرضه والناطق باسمه”. وكأن الكاهن عندما يحكم باسم الإله، يظن أنّه الإله نفسه، وأنّ كلماته خارجة من فم الإله، ومن يعارضه فإنما يعارض الإله وبناء عليه أمر بإعدام الحكيم “إيليم” في منتصف ساحة المعبد . ولم يكتفِ بهذا بل أمر وبناء على نصيحة “يلاخي” رئيس القضاة بإعدام جميع الحكماء حتى لا تنتشر أفكارهم المعادية للثورة.
كما تشير الرواية إلى جلجامش ملك بابل والذي استغلّ قيام ينماخو بقتل معظم قادة وأفراد جيش ناريا الملكي السابق لينقض معاهدة السلام التي كانت قائمة بين بابل وناريا، ووجدها فرصة ليعيد بابل لأمجادها فجمع قادة جيشه وأبدى رغبته في مهاجمة ناريا للإستيلاء على بلدات وقرى النهر الشمالي ولم يكن أمام هؤلاء القادة سوى السمع والطاعة تلافيا لبطشه. ولتبدأ سلسلة من المعارك والحروب العبثية بين ناريا وجارتها مملكة بابل.
ويبرز الكاتب وبأسلوب درامي كيف أن ينماخو بعد ان قضى على البنية العسكرية للجيش الناري وإعدام قادته، أعاد تكوين هذا الجيش من شباب الحرس الكهنوتي ليكون عدته لحربه مع جلجامش مطلقًا مقولته الشهيرة بأن كل من يقتل في الحرب سوف يدخل العالم العلوي ويخدمه الآلاف من العبيد والجواري. مستفيدا من إقتراب موعد طقوس البكاء على الإله دموزي ليوظفه في شحن الهمم وإثارة العواطف والغرائز حيث الجميع يلبسون السواد ويلطمون صدورهم ورؤوسهم حزنًا على مأساة الإله وتقام مواكب الرثاء في كلّ أرجاء ناريا.
ويبدو انه لا قيمة للإنسان في قاموس الحروب الإلهية، لذا نجد ان “نسرو” قائد جيش ينماخو وبناء على فتواه استخدم السيول البشرية من شباب الحرس الكهنوتي وزجّ بهم في اتون معاركه مع جيش بابل، هذه المعارك التي حصدت الآلاف من الأرواح البشريّة.ولم تسفر عن أي نصر مرتجى مما إضطر ينماخو أن يرضخ في النهاية، وبعد وقف الهجوم على بابل وإنهاء الحرب يقول ينماخو “سوف أتجرع مرارة قرار وقف الحرب وكأني أتجرع السُم”.
في جانب آخر يتطرق الكاتب في روايته إلى ان مواجهة الظلم والإستبداد ليس بالضرورة أن يواجه بالدم والعنف، بل يواجه بالحكمة وبنشر الوعي في العقول وتنويرها لتصبح قادرة على تمييز الغث من السمين وتستطيع التفريق بين الحق وبين الباطل المتلبس لبوس الحق،يقول “نسحو” الحكيم لتلامذته: “بالدم لا تُبنى الدول، وإنما بالعقل والحكمة.علينا بناء العقول بنشر الحكمة بين الشعب حينها تضمحل دولة الكهنة القائمة على الخرافة”.
كما يبين لنا الكاتب كيف أن الغاية تبرر الوسيلة عند ينماخو، فلأجل إسترداد “نسحو” ابن الحكيم “إيليم” والذي لجأ إلى مملكة بيبلوس يعلم أتباعه الحكمة، قرر ينماخو التقرب من ملك بيبلوس لاستمالته وأصدر امره لمساعده قائلا: “عليك أن تحث التجار أن يعززوا تجارتهم مع بيبلوس ويتقربوا من ملكها. سوف أرسل معهم هدايا ثمينة الى ملك بيبلوس لتتوثق علاقتنا معه”. وتنجح خطته جزئيا بأن يأمر ملك بيبلوس بمغادرة “نسحو” البلاد بناء على اتفاق مع مبعوث ينماخو.ليتم القبض عليه لاحقا من قبل رجال ينماخو وسوقه للإعدام كأبيه في ساحة المعبد.
يبقى أن نشير إلى أن رواية ناريا كتبت بأسلوب تميز بالرشاقة والسلاسة بحيث تحفز القارىء للإستمرار في تتبع أحداثها التي أعتمد فيها الكاتب تقنية أقرب إلى المشاهد السينمائية المتنقلة ما بين بابل وناريا وصولا إلى بيبلوس.
لا بد من الإشارة إلى ان رواية ناريّا وإن كانت كما ذكرنا سابقا رواية تخيلية عن زمن غابر، وأن الكاتب إعتمد في بعض مفاصلها على التورية إلا أن ذلك لا يمنع من إسقاطها على بعض الشواهد سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومن هذا المنطلق يمكن القول ان الرواية ربما تشير إلى الحرب العراقية-الإيرانية بعد قيام الثورة في إيران، بدليل اننا لو قرأنا كلمة ناريا من اليسار إلى اليمين سنصل إلى كلمة “إيران” وأيضا إنّ تلَفُظ “ينماخو” بعبارة “تجرع السم” عند إيقافه للحرب يعيدنا بالذاكرة إلى كلمة الخميني الذي إستعمل نفس التعبير ناهيك عن الطقوس التي أشار إليها الكاتب وهي طقوس البكاء على الإله ديموزي فهي إشارة إلى بعض الطقوس والشعائر الدينية المعتمدة في إيران، وأيضا مصطلح “الحرس الكهنوتي”، أما إذا اردنا التوسع فإن الرواية تشير إلى مطلق صراع حدودي بين الدول المتجاورة والحروب العبثية التي تنجم عن مثل هكذا صراعات والأمثلة كثيرة في هذا المجال إقليميا ودوليا.
في الختام لا بد من التساؤل هل يمكن للحكمة وحدها أن تواجه الظلم وتقضي على دولته؟ هل يمكن للشعوب إذا ما تعلمت الحكمة أن تقف في وجه القوة وتقاومها؟ ويبقى الأمل قائما والرهان على وعيّ الشعوب ونردد مع الشاعر قوله: “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر”. وإذا كانت الرواية قد حملت في بدايتها عنوان “أفول شمس الحكمة” نجد ان فصلها الأخير يزخر بالأمل تحت عنوان “بزوغ فجر جديد”. لتنتهي الرواية على وقع مناداة “لامو” صديق “نسحو” وأحد تلامذته الذي وقف وسط الجموع مناديا “الموت لينماخو ويسقط حكم الكهنة “.