بقلم د. شعبان عبد الجيِّد ناقد وأكاديمي مصري
حين فَرَغتُ من قراءة رواية ” كولونيا الجديدة” للأديب الإريتري هاشم محمود، وقد أَتيتُ عليها كاملةً في أقلِّ من ساعتين، أحسستُ برغبة قويةٍ في أن أُعيدَ قراءتَها مرَّةً أخرى، لا لأنها كانت غامضةً وملتوية، ولا لأنني لم أستوعب تفاصيلَها؛ بل لأنها كانت جذابةً ومثيرةً وممتعة. لغةٌ عربيةٌ مبينةٌ وأنيقة، وجُمَلٌ قصيرةٌ ومكثَّفةٌ ورشيقة، تلهث حينًا وتهدأ حينًا، وأحداثٌ تتوالى في إيقاعٍ متناغم، وإن تداخلَ زمانُها ومكانُها، وشخصياتٌ واضحةٌ وضوحَ الشمس، لا تعقيد فيها ولا عُقَد، وإن كان بعضُها في حالةِ ثورةٍ فائرةٍ وغضبٍ لا يَهدأ، وسردٌ بيانيٌّ رائق ومتنوع، يتأرجح بين الغنائية الهائمة والتقريرية المباشرة، وموضوعٌ حيويٌّ يشغلنا ويؤرقنا، لا يزال ساخناً وملتهباً، يتعلق بوجودنا ومصيرنا، ويتصل بإرادتنا وكرامتنا، ويرتبط بحريتنا واستقلالنا.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أقتربُ فيها من عالم هاشم محمود الروائي دارسًا وناقداً، فقد سبق أن قرأتُ له روايته الرائعة ” فجر أيلول”، وكان لي شرفُ تقديمها إلى القرَّاء، وكنتُ على يقينٍ بأنني لم أقل عنه كلَّ شيء، ولم أوفِّه حقَّه فنَّانًا وإنسانًا، وهو ما سوف أحاولُ أن أفعلَه في هذه السطور.
لا يحتاجُ القارئُ الفطِن إلى كبير جُهدٍ ليدرِك، ومن الصفحة الأولى، أن رواية “كولونيا الجديدة” هي الجزء الثاني من رواية ” فجر أيلول”؛ فهي امتدادٌ طبيعيٌّ لها، وأنها هي الأخرى روايةٌ وثائقية، وإن تميزت عن سابقتها بأنها إلى السياسة أقرب منها إلى التوثيق والتسجيل، وأن نبرة الغضب والثورة فيها أكثر حِدَّةً وأعلى صوتاً؛ فالأوضاع في بلاد الكاتب تتأزم، والأمورُ هناك تتعقَّد، وحياةُ الناسِ تسوءُ يوماً بعد يوم، ولم يعد في قوسِ الصبر منزع.
والعنوان في رواية “كولونيا الجديدة”، أو المستعمرة الجديدة (New Colony) هو عنوانٌ سياسيٌّ صارخ، قصدَ إليه المؤلِّفُ قصداً، وهو عنوان قاتمٌ ومأساوي، يثيرُ في نفس القارئ مشاعر الغضب والثورة؛ فقد تلوَّن الاستعمارُ كالحرباء، وغيَّر جلدَه القديمَ القبيح، ولم يعد تدخلاً عسكريًّا خارجيًّا ومباشراً من دولةٍ قوية وغاشمةٍ في شئون دولةٍ أخرى ضعيفةٍ وعاجزة، لنهبِ ثرواتها والتحكم في مصائر شعبها؛ فقد اتخذ من أبناء الدول المستضعفة أعوانًا ينوبون عنه في امتصاص دماء شعوبهم، وانتهاب خيرات أوطانهم وتقديمها له لقمةً طرية سائغةً دون أن يضحِّيَ من أجل ذلك بأيِّ شيء، أو يبذلَ في سبيله أيَّ جهد.
إن المستعمر هنا صار واحداً من أبناء الوطن، اغتصب السلطة، وانتزع الولاية، واستولى على الحكم، وجلس على العرش، حاكمًا فردًا وطاغيةً مستبِدًّا، تعينه على أمرِه حاشيةٌ أفَّاقةٌ فاسدة، ويحمي عرشَه جيشٌ خائن مأجور، وتدعمه قبل ذلك وبعده قوةٌ أجنبيةٌ طامعة، هي التي أتت به، لأنه ينفذ “أجندتها” ويحقق مآربها، وهي التي تُبقي عليه لأنه يطيعها في كل ما تأمر به، وهي التي يمكن أن تُطيح به وبمن معه إذا خالف خطَّتها أو خرج عن سياستها، أو رأت أنه صار ورقةً محروقة، لا خير فيها ولا نفع من ورائها؛ ساعتها تقلِب له ظَهْرَ المِجَن، وتدوسُه بأقدامها، لتتحالف مع من يَخلُفه، أو تتخذَ لها صنيعةً سواه. إنها صورةٌ بشعةٌ وشنيعةٌ من صور الاستعمار البغيض، وهي مأساةُ كثيرٍ من دول العالم الثالث في واقعنا العربي والإفريقي المتأزم؛ تذهب ضحيتَها الشعوبُ المقهورة، وتقع فريستها البلادُ المستضعَفة، ويدفع ثمنَها الفادحَ كلُّ المواطنين الشرفاء والمناضلين النبلاء والمفكرين الشجعان. ومن هنا تبدأُ الرواية.
وقبل أن أختم هذه المقالة أودُّ أن أذكر أن الأستاذ هاشم محمود قد فعلَ شيئًا عجيبًا، لم ينتبه هو نفسُه إليه، كما علمت ذلك منه شخصيًّا، فالمبدع قد يقدِّم أجمل ما لديه من وراء الوعي ؛ لقد أنهى الرواية بما ابتدأها به، أو أنه بدأها بمثل ما سوف تنتهي إليه. وهو ما يمكن أن نسميه بأسلوب (الرواية المدوَّرة) التي تبدأ بنهايتها وتنتهي ببدايتها. وتمامًا كما في سورة “يوسف”، تبدأ “كولونيا الجديدة” بحلم يرى فيه إدريس نهاية الطغيان ومولد ابنه، وتنتهي بأن تضع ليزا طفلَها “حامد بن إدريس”، سَمِيِّ المناضلِ الإريتري الأكبر حامد عواتي، وفي الوقت نفسه يسقط عرش الأخ الأكبر وينتهي عهدُه البائسُ
وسنواتُه النَّحِساتُ إلى غير رَجعة.
هل أقولُ إن هاشم محمود، بروايته هذه والروايات التي سبقتها، صار يتربَّع على عرش الرواية العربية في إريتريا، أو إنه صار من أبرز أعلامها؟ هل أؤكد أنه واحدٌ من أهم من شُغلوا بقضايا بلادهم وعملوا جادين ومخلصين على توثيقه بالكلمة وتسجيله بالفن؟ هل أكرِّرُ أنه ناضلَ بالحرف، وقاومَ بالفكر، وجابَهَ بالإبداع؟ أخشى أن أصادر رأْيَ القارئ فيما سوف ينتهي إليه من آراء؛ وإن كنتُ على يقينٍ بأنه سيشاركني المتعة بهذه الرواية، ويقاسمُني الرأيَ بأنها واحدةٌ من أفضلِ رواياتِ الأدبِ النضاليِّ في أدبنا العربيِّ الحدي