محجوب حامد آدم ..
في ذلك البيت الدافئء بأروما في شرق السودان ، الذى يشبه إلى حد ما بيوت كرن القديمة ، خصوصا حجارته الجبلية والطوب الأحمرالقائم عليها وشجرة النخيل الشامخة في واحدة من زواياه وتلك النوافذ الصغيرة والعتبات العالية المؤدية إلى مداخل الحجرات المسقوفة بالزنك ، بيتا يمانيا بإمتيازفي حى السوق، حال الكثير من بيوت اليمانية والحضارمة الذين كانوا جزءا من النسيج الإجتماعي لمدينة أروما العتيقة . كان بيتنا الأول ، قبل أن تأخذنا أروما في تلابيبها وتوزعنا في عدد من الحواري والبيوت لنتنفس مع أهلها الرائعين مجمل تفاصيل الحياة برئة واحدة ونبض فياض بالمحبة .
كانت تقتسم معنا ذلك البيت المرأة الفاضلة / سعدية حسين ، وهي إمرأة تنتمي إلى ذلك الجيل المقهور، المهجر قسرا بعد أن ضاقت إرتريا بأهلها ، فشتتهم تلك الظروف القاسية فى الأفاق .
إمرأة تخفى خلف إبتسامتها مرارات اللجؤء العصية وقادرة في ذات الوقت أن تبتسم فتمنح من حولها ذلك الضوء الباهر من الجمال . حينها كان شقيقي عبود رحمة الله عليه طفلا يافعا لم يتجاوز شهوره الأولى .على يديها ترعرع وهي تعتق صباحاته بتلك الأغنيات الجبلية البعيدة ومواويل تشبه التعويذات ، تدخل شغاف القلب بذلك العطاء المكتنز في فمها . كان صوتا باهيا يتسلل عبر نوافذنا المشرعة للصباح ، ولا يزال يسكن غضاريف الذاكرة بذات الرونق والصفاء .
على يديها تعلم عبود رحمة الله عليه المشي والكلام وبدأ يردد معها كل صباح مواويلها وتعويذاتها بلكنته البريئة ، عندما بلغ عامه الأول أقامت له عيد ميلاد بطريقتها الخاصة ، مستدعية كل الطقوس الرائعة التي تنتمي إليها ، كان عيدا غريبا بالنسبة لنا أشبه بتلك الأعياد والطقوس الأفريقية فى بهجته و كرنفاليته . ربما طفولته تلك المفعمة بالجمال مع تلك المرأة الصالحة من قاده لاحقا للزواج من أهلنا الساهو وفتح لنا تلك الدروب التي مشيناها خُطا .
عندما توسعت مداركي عرفت أن الساهو يحتفلون بهذه الطريقة الجميلة للمواليد في عامهم الأول ، وعرفت أيضا من أين يستمد الفنان الكبير/ أبرار عثمان حلاوة وطراوة صوته ، وهو أمر طبيعي لمن يرضع حليب تلك المرأة / سعدية حسين لابد أن يخرج فنانا عظيما . فهي من وهبته الحياة وقاسمته عذوبة صوتها وزرعت فيه تلك القيمة النبيلة التي لا يزال يتوكأ عليها ، ولنا عليها دين مستحق فقد كانت أمنا الثانية ولا تزال والدتي تتحدث عنها بأريحية تلك الأيام .
لم يحالفنا الحظ على مشاهدة أبرار في تلك الدار ، فقد كان مقاتلا يفتش مع رفاقه فردوسنا المفقود “ارتريا” كما رفع بجانب البندقية صوته وأطلق عقيرته بالغناء الثوري مضيفا بذلك عدد من الأغنيات في مسيرة الحشد التعبوي الذى أولته الثورة جانبا مهما لدوره الرائد في التعريف بنضال الشعب الإرتري وعدالة قضيته ، لكن بين الفينة الأخرى كان شقيقه أحمد يتردد على السيدة الفاضلة / سعدية حسين ، وهو يشبه تلك المرأة في وقاره ورزانته وتأدبه وبره لها تلحظه بريقا يغطي عينيه .
الفنان / أبرارعثمان ، مدرسة فنية قائمة بذاتها ، ينتمي الى ذلك العالم المسكون بالدهشة والمطرز بكل أسباب الروعة ، يختار نصوصه بعناية فائقة ويسكب عليها من الألحان بذات القدر من العناية والدقة والجمال ، واضعا فى الإعتبار طبقات صوته المريحة التي يأخذك بها إلى سماوات متعددة غارقا بين ضفتي الحزن والفرح بصوت عذب مستملح الأغاريد . هو فنان مُقل لم يثير ضجيجا أو زوبعة ليصل إلى مسامع الناس ، بل وصل بروية وهدوء وهو يشبه الروائي العالمي/ الطيب صالح في إقلاله وإهتمامه بقيمة ما يقدمه ، لذلك تجده على قلته قدم فنا ناضجا يحمل من الفكر والرؤى ما يصعب أحيانا إلى تفسير ما يرمز إليه من خلال تعبير باطني عن الواقع، وتحظى أغتياته الرمزية بكل دلالاتها البعيدة والقريبة من العبقرية ما تطرح أكثر من تفسير وتأويل ، بل يذهب أحيانا إلى أبعد من ذلك إذ يأخذك إلى جماليات اللحن ، وتلك الجمل الموسيقية المعجونة بالحوار والدهشة والأسرار وهو أمر مثير وغير مألوف على الأقل فى الألحان الإرترية .
تعامل أبرار مع عدد من الشعراء ، كما غنى بأكثر من لغة محلية وقد شكل هذا التنوع من المدارس الشعرية والألسن المتعددة على إثراء ما قدمه من أعمال ، وهو ما يتيح له أيضا إنتقاء ما يشبه عالمه الفني والعمل على إعماره من خلال هذا التنوع ، وقد حكى لي الشاعر الجميل / سعيد فلوفو في واحدة من حوارتي التلفزيونية معه عن تجربة – جدة – كما يسميها ، وهي فترة أنتجا خلالها الكثير من الأعمال المشتركة في مدينة جدة ، ويعتبرها تجربة مهمة وملهمة أفرزت أغنيات جميلة يعتز بها وبذلك الزخم المصاحب لها .
عندما صدر إلبومه “شتّا ياسمين” نهاية الألفية الثانية ، أثار ضجة رهيبة لم تشهدها الساحة الغنائية في أسمرا من قبل ، ظل الإلبوم متربعا على عرش النجومية لسنوات عقب صدوره ، وقد كان مصدر قلق للكثير من الفنانين الذين ترددوا فى إصدار إلبوب غنائي خوف المغامرة بالمردود المعنوي لما يقدمونه للجمهور مقابل ما يزال عالقا في الأذهان من أغنيات أبرار ، وقد أقحم مفردة “ياسمين” فى قاموس الشعر الغنائي للغة التجرينة لأول مرة ، وهي مفردة نالت حظا أوفر من التعاطي فى تلك الفترة ، ولعل أغلب البنات اللاتي حملن أسم “ياسمين” فى إرتريا ينتمين إلى تلك الفترة التي صاحبت شهرة ذلك الإلبوم ، محدثا بذلك نتوءات فى عالم الأبراج – إن جاز التعبير- .
كما صادف تلك الفترة النزاع الحدودي مع إثيوبيا ، وبالرغم من الحالة الإستثنائية التي تفرضها ظروف الحرب من قتل ودمار وما شهدته تلك الفترة من خراب والتي لا يزال تأثيرها قائم حتي اليوم ، لم تمنع من إنتشارإلبوم “شتّا ياسمين” فقد سافرمع مركبات النقل والعتاد وفي حقائب المقاتلين ليشكل حضورا فى أغلب المواقع على مستوى الجبهتين ، فتسمع صدى الأغنيات فى إستراحات المحاربين تارة هنا ، وتارة أخرى فى الجبهة المقابلة هناك عندما تغفو أصوات البنادق ، ليظل الفن وحده قادرا بكل جدارة على فعل ما عجزت عنه السياسة .
تم تتويج إلبوم “شتّا ياسمين” بجائزة رايموك ، وهي جائزة فنية تمنح داخل إرتريا فى إطار مهرجان إرتريا السنوي ، وقد أثارالحدث الكثير من التساؤلات واللغط فى الوسط الفني لجائزة تمنح من داخل أسمرا لفنان يجاهر ببغضه للنظام ، توقع البعض حضور أبرار للتتويج ،وعول غيرهم على عدم حضوره ، لكنه إكتفى من منفاه الإختياري بإهداء قيمة الجائزة لإتحاد الموسيقيين الإرتريين .
أبرار فنان محترم ، منحاز للقضايا الإنسانية ، يولى جانب أكبر من مشروعه الغنائي لقضايا شعبه ووطنه ، له فلسفته الخاصة فى طرحها عبر مشروعه الذى أخذ من وقته عشرات السنوات ، أنتج خلالها أغنيات خالدة حكم عليها الزمن بالبقاء لجدارتها ، كما يظل الكثيرمنها مثار جدل النقاد والباحثين .
شكرا الفنان الجميل / أبرار عثمان لهذا العطاء المتميز ، متعك الله بموفور الصحة والعافية ، وفي إنتظار الجديد من الأعمال التي عودتنا عليها مغسولة بشلالات من الفرح . ومن القلب بطاقة محبة مقرونة بالأشواق والإحترام والتقدير للسيدة الفاضلة / سعدية حسين التي أهدتنا هذا العملاق الموهوب .
وألف رحمة ونور تغشي روح شقيقي / عبود في جنة عرضها السموات والأرض بإذن الله .
دمتم
القاهرة 7 ديسمبر 2021