حرقـــة الحنيــن في قصيــدة” حنيـــــن “
للشاعر العربي السوري مصطفى العجان
( تحليلٌ منقول )
للباحث الأديب الأستاذ عبدالرحمان الخرشي
من المملكة المغربية
النص تجربة شعرية من تجارب الحنين إلى الأوطان”النوستالجيا Nostalgia”، يعكس- في اختزال واقتضاب – مجموعة من الحالات يحياها الإنسان: تهجير، فراق، وحدة اغتراب… مما يؤدي إلى معاناة، فشوق، فحنين فبوح بالدفين والساكن في أعماق النفس… وهذا ما تأسس عليه النص الشعري( حنين ) للشاعر السوري مصطفى العجان.
عنوان( حنين ) في هذا النص له علاقة بجذره اللغوي( ح ن ن )، وفعله حنَّ، ومصدره( حنين )، وصيغته الصرفية( فَعِيلٌ )…وبناء عليه فالعنوان- بهذه التفاصيل الدقيقة – لفظة من بنات لغة يعرب بن قحطان؛ ورد لفظها( حنين ) في عنوان النص( نكرة ) تعميقا لتشتت الدلالة في نفس المتلقي بين أي نوع هو؟. وعن دلالته اللغوية فقد أوردته معاجم اللغة بمعاني متعددة للدلالة على مجموعة من الأصوات: صوت الأم إلى ولدها، وصوت الناقة إذا حنت، وصوت المتألم في قلبه، وصوت الريح والنسيم الرقيق، وصوت العود عند النقر عليه، وصوت القوس عند الإنباض، وصوت المرأة تفتقد زوجها، وصوت المشتاق… وهو يربط بالتعلق بالماضي السعيد. وهو حالة نفسية أساسها الكآبة جراء الحنين إلى الوطن، والتحسر على ما فات من الأيام السعيدة !.
استعمله الشاعر مصطفى العجان في هذا النص القصير( حنين ) للدلالة على الحنين إلى الوطن والاشتياق إليه، باعتباره طبيعة أصيلة في الإنسان، ومنه الإنسان العربي منذ القديم- العصر الجاهلي مثلا – وما يليه من الأحقاب، وبخاصة لما ارتبط عند الشعراء بموضوع النسيب الباعث على الشوق، والتذكر، والحنين.. وإن كان قد تفجر في شعر شعراء المهجر بكثرة؛ سواء عند شعراء المهجر الشمالي( الرابطة القلمية ) أو عند شعراء المهجر الجنوبي( العصبة الأندلسية )، وكان الباعث إليه عندهم جميعاً هجرة اضطرارية تعقباً للرزق الذي سدت منافذه، وفرارا من اضطهاد سياسي صعب مورس في البلاد العربية وبخاصة في المشرق العربي، مما دفع بهؤلاء الشعراء إلى الهجرة إلى إحدى الأمريكتين؛ وهو ما عرضهم لحياة الاغتراب، والإحساس بالضياع، والوحدة، والضعف الشيء الذي حفزهم على التفكير في العودة إلى أوطانهم والحنين إليها لكونها ظلت مهبط إلهامهم، ومدرج طفولتهم، ومهد ارتوائهم بمعين الجمال الثر، والسعادة، ورغد العيش. وهو ما دفعهم إلى طرح السؤال: لماذا نبقى عن أوطاننا مبعدين؟!.
وأنا لا أستبعد مرور الشاعر السوري مصطفى العجان من نفس التجربة( الاغتراب ) وإن كان في ظروف ونتيجة أسباب تختلف كما ورد في قصيدة( حنين ) من مؤشرات لفظية وتعبيرية دلت عليه!.
فجر الشاعر مصطفى العجان حنينه إلى وطنه/بلاده( ســوريــا ) في هذا النص عبر مسافة أحد عشر بيتا خليليا في محطات شعرية مريحة:
الأولى: لما استهل القصيدة بمطلع تضمن ألوان من العناية اللفظية والدلالية؛ منها: استهلاله بأحد حروف اللسان والحلق الصلب الاحتكاكي المجهور( اللام ) تعبيرا عن فرحته بنزوع النفس المتحرقة وتعلقها بوطنها البعيد( سوريا ). وتحديد موضوع القصيدة في مستهل النص الشعري( الشوق ). واستهلاله بعنصري التصريع والتوازي الصوتي( اشتياقي – انطلاقي ) لغايتين: الأولى: إيقاعية؛ أي الرفع من إيقاع البيت/المطلع. والثانية: دلالية؛ أي التأكيد على الاستهلال بما يؤرق الذات الشاعرة من الشوق والحنين.
إن الشاعر وعلى عادة الشعراء القدماء، وشعراء البعث والإحياء المناصرين للنهج التراثي والتأثيل والإبقاء على جلال القصيدة العربية بالشكل العمودي؛ جسم وشخص في مستهلها بلاده( سوريا ) باعتبارها كائناً حياً على عادة الشعراء القدماء والمحدثين وعبر عنها بما دل من الضمائر؛ الأول: ضمير المخاطبة المفرد( منكِ – مرتين – . عينيكِ . خدكِ . بضمك ِ ) والثاني: ضمير الغائبة( إليها )؛ وفي ذلك ما يرفع من سقف تطلع المتلقي إلى أن يتصور أن الشاعر يخاطب امرأة اغتنت بجمالها عما يزينها من أنواع الحلي، مع تركيزه على ما يدل على التغزل بها( عينين – خد ) والاحتراق بالشوق إليها:
لقبلةِ خافقي وهـجُ اشتيـاقــي فمنكِ البدءُ بل منكِ انطـــلاقـــــي
إلى عينيكِ قد يمّمــتُ قصـدي كعصفورٍ بلا قـــــدمٍ و ســــــــاقِ
وأشعاري أرتّلــهـا إليــــــــها بكلِّ حروفها نـــــارُ احتراقــــــي
وألثمُ خدكِ الزاهــي بعطـــــرٍ لكي أحــظى بضمّــــكِ والعنــــاقِ
الثانية: لما صرح بما دل عليها وسْماً واسماً بعد التمهيد ببث حرقة الشوق إليها، وشدة التعلق الدائم بها، والتغني بجمالها فيما سلف من أشعاره، وهو اليوم تاق لمعانقتها بعناق الطهارة الخالص وهو لا كالعناق !.
بعد هذه السكرة الحلال الحالمة سيتبين للمتلقي إن المتغرل فيها لم تعد أنثى- كما تهيأ له – وإنما هي( بلادي ).. ما أشد تأثير السحر الذي نفثه الساحر/الشاعر في الكسر في حرف الدال في لفظة( بلادي )، وما أشده تأثيراً على النفس !. فهذا الكسر يوحي بانكسار جناح الشاعر وهو في غربته، بل إن جميل التعبير هذا ورد في سياق المنادى المحذوفة أداته. إن المقصود ببلادي( سوريا ) التي هي موطن الشاعر، وهي اليوم جرحه الغائر الذي استدعى نداء بأداة مناسبة للتعبير عن الحال عززها الشاعر بأداة التأكيد تعميقا للاعتراف بالضعف أمام الذي يحدث في بلده من القتل والتنكيل. وفي الأمر التعبير- بصدق – عن حاجة الشاعر الضرورية لبلده، وإن كانت حالته تشي بأنه حاقد؛ وحقده هذا لا يزول:
بلادي إنني طفــلٌ ينــــــــادي على ضِـرع يتوقهُ فــــــي حِـنَـاقِ
الثالثة: لما جعل الشاعر من قلبه عرشا ثمينا- لا كالعروش – وهو من دم ولحم فينصبه لوطنه أريكة مريحة يجلس عليها مزهوا ومتوجا باعتبارها الأمير على قلبه. ومن فرط الفرح بهذه اللحظة السعيدة يجد الشاعر أن لا مندوحة من استسلامه للبكاء بدمع هتون يسقى الورد لكثرة الدمع فيه !:
أتوّجك ِ الأميـرة َفي فــــؤادي وأروي الوردَ من دمـعِ المــــآقي
الرابعة: هنا حق للشاعر أن يعزف على ربابة الأمل بعد حزن شديد؛ إنه أمل العودة إلى وطنه/بلاده وقد طال شوقه وانتظاره لهذه العودة التي تستدعي حتى تتحقق إرادة قوية، وعزما صارما، وتصميما قوياً، لأجل التمكن من القطع مع ثقل هموم طالت، وتطلع لحاضر سعيد، وهذا لا يتأتى إلا بالشروع في ثني سفينة الشاعر عن عدم البقاء بعيدا عن الوطن. وكم كان الانزياح هنا لطيفا ومعبراً؛ والأداة لباس قشيب من البلاغة العربية وبخاصة علم البيان( استعارات وتشبيه )؛ تزييناً للفظ، وتحبيباً للدلالة في النفس حتى تطيب بقبول العودة إلى الوطن دون تأخر.
ما أروع هذه العودة وهي تخلص الذات الشاعرة من خوفها ! وما أروعها وهي تنهض بالذات من صميم ضعفها !. بل ما أروعها وهي تطوي أشرعتها رجوعاً إلى الوطن العزيز، تحقيقاً لوصل عاشق طال انتظاره العودة، وصهرته مرارة الغربة، والإحباط، وقسوة الحياة !.. بخ بخ نحن أمام شاعر عاشق لمعشوق حاز صفات الكمال في جمال مادي ومعنوي؛ إنه( الوطن ).. وما أسعد الشاعر بهذا اللقاء المخلص من العذاب؛ عذاب الحوباء من الاحتراق، والموت جراء شدة الشوق قبل أن تقضي:
وأطوي كلّ أشرعتي رجوعـا إليكِ .. قبيل موتــي بالفـــــــراقِ
كأسماكِ البحار أنـا قتــــــــيلٌ إذا عن مائها طــال التحاقـــــــي
فأحيا دون أنفاسٍ بصـــــدري وأجـتــرُّ الهواء عــلى رَمَــــاقِ
إن شدة تمكن الشوق من الشاعر جعله لا يقوى على إخفاء شوقه، ولا على مداراته بعد أن تمكن منه( الحنين )
أحاول كتم أشواقي أرانــــــي على نفسي أراوغُ في نفـــــــاقِ
فيحملني حنيني فوق جُـنــــحٍ كأنّي والحنيــن ُعلى سبـــــــاقِ
باختصار شديد الشاعر مصطفى العجان حالفه التوفيق وهو ينتقي الفاظه وتعابيره وصوؤه وإيقاعاته لمحتوى هذا النص الشعري الذي انتقى له بحراً مناسباً؛ الوافر التام لزيادة أوتاد تفعيلاته، أو حركاته( مفاعلتن مفاعلتن فعولن )؛ وفي هذا قصده وإصراره على الحفاظ للقصيدة على بنائها العمودي، المشكل من شطرين متناظرين( صدر/عجز ) مفصول بينهما ببياض مما يساعد على تعاقب إيقاعات تشع منها أصوات إيقاعية تلتصق بالأذن وتطربها.. وعزز ذلك بإيقاعات أخرى ناسب نفسيته وهو يحن إلى وطنه؛ كالقافية الموحدة متتابعة والمرتبة تنازلياً؛ وهي قافية مطلقة كما الآمال التي تحرك الشاعر من داخله/نفسه، وما الإشباع بياء إلا تعبيرا عن مدى انكسار النفس واستسلامها وتراخي الشاعر أمام واقع أجج فيه الحنين في تلك اللحظة الفارقة في حياته !. كما ناسب حرف الروي( القاف ) هذه الحالة الإنسانية الطارئة عند الشاعر لما اتصف به من الصفات الداخلية والخارجية… بقي أن أشير إلى تأثر الشاعر بالنظرة المشرقية للحنين للأوطان، والتي ما فتئت تختلف عن نظرة المهجريين التي تجاوزتهم في الحنين إلى للوطن العربي ككل.