يكتب السجين الفلسطيني
كتبت الشاعره إيمان مصاروه عن : أدب السجون
…..
رغم قيده ليتحرر من فظاعة الزنزانة والسجان ويسجل ذاكرة وتاريخا شاهدا على ظلم التحقيق وزنازين الاعتقال، والتي رغم قسوتها، لم تمنعه يوما من مواصلة الانخراط بالحياة خارج القضبان والمساهمة في تحقيق المشروع الوطني، من خلال الكتابة الإبداعية نحو التحرر، ويُعتبر كل مخطوط تسرب من المعتقل وثيقة هامة سجلها الأدب الفلسطيني المقاوم الذي يؤرخ لخصوصية الهوية الفلسطينية التي يعمل الاحتلال الإسرائيلي على طمسها وتشويهها بكل الوسائل منذ أكثر من سبعين عاما .
إن مقاومة الاحتلال قبل وبعد فك أسر المعتقل يتم التعبير عنها من خلال الكتابة، وكثيرا ما يتم صياغة التعريف بذوات السجناء، فالكتابة وكما يراها المعتقل هي طريق للحرية التي صادرها المحتل من أصحابها، وهي صمود أمام عمليات التعذيب التي يتعرض لها المعتقل مع اختلاف ثقافته، بل هي بوصلة ومحفز على مواصلة الإبداع، وهكذا لا يتم استثناء الأسير من الحراك الثقافي خارج أوصال الجدران، حتى أن بعض نتاجا تهم التي تم تهريبها بشتى الوسائل أصبحت تنشر على المواقع الالكترونية وصفحات الجرائد والمجلات الأدبية المرموقة، هذا لأن المعتقلات قد شكلت مساحة مفتوحة للقراءة والثقافة وبناء المعرفة وحتى مكان للتعليم الأكاديمي على اختلافه.
إن قاطن السجن الذي نتحدث ونوثق له وندرج خصوصيته في هذا المبحث، هو السجين السياسي والذي اعتقل لأسباب عقائدية وسياسية، غير أن أغلبية التهم عند الاحتلال الإسرائيلي،هي تهم تتعلق”بالأمن”سواء كانت مخالفة لقوانين” أمن الدولة” أو قوانين الدفاع، أو” حالة الطوارئ التي يعمل بها في أحيان كثيرة” ،علما أنها من بقايا الانتداب البريطاني على فلسطين وتعود للعام 1945 من القرن الماضي، وحتى قانون أمن الدولة الإسرائيلي والذي لا يختلف كثيرا عنه وعن قوانين مماثلة في دول أخرى، خاصة أن معظم السجناء السياسيين هم فلسطينيون قاموا بالتمرد على سياسة الحكومات المتعاقبة منذ قيام الدولة وحتى اليوم، ويذكر أن المخالفات السياسية بعد حرب أل 1967 أيضا هي مخالفات مرتبطة بالتعامل مع منظمات المقاومة الفلسطينية وهي أيضا منظمات غير مشروعة!!، ومعظم السجناء أدينوا بتهم مثل المظاهرات و رسم شعارات أو أقل من هذا وأحيانا كثيرة ربما يتهم المعتقل بأكثر من ذلك بكثير.
وسجناء الضمير الحي والحرية هؤلاء الذين عبّروا عن عذاب الروح والجسد معا وهم من تحملوا قرارات المحاكم العسكرية الصورية والتهم الملفقة وتجاوز القوانين المعمول بها دوليا، كاعتقال الطفل مثلا، أو المسن الطاعن، والمرأة الحامل، وحتى المريض وتقديمه للمحاكمة دون الاكتراث لحقوق الإنسان وأنهم سجناء حرية دفعوا أعمارهم مقابل الدفاع عن وطنهم ومستقبل أبنائه.
وفي توثيقي هذا والمهتم بأدب السجون في فلسطين، وما اكتسبه الأديب أو الشاعر من تجربة فردية نتيجة قهر وظلم السجان والمحتل له، أو نتيجة وقفة تضامنية مع ما يحصل مع معتقلي الحرية والنضال في السجون الإسرائيلية وحتى يومنا هذا، وحرصا على الذاكرة الفلسطينية من الضياع وكموقف وطني ورؤية سياسية شمولية سليمة، وبعد أن تزاحمت الأحداث في السنوات الأخيرة، فقد سجلت الحركة الأسيرة إبداعا تراكميا يُذكِر دوما بهذه القضية التي لا زالت عالقة حتى يومنا هذا، علما أنها المساحة الأكثر قدسية للشعب الفلسطيني ول”سجناء الحرية”، وما بنوه من أمل بالإفراج عنهم بعد توقيع “اتفاقية أوسلو” *، وما تبع ذلك من تطورات على هذه القضية التي تؤكد ظلم وتحييد من دفعوا نضالا تهم، وقناعاتهم بالحرية والاستقلال، ثمناً لذلك .
وهذا الصنف الأدبي ” أدب السجون” الذي ميزته خصوصية المنطقة، والذي يعود تاريخه إلى فترة ما قبل الإسلام، ورغم ما يصوره من ألم ووجع واضطهاد، إلا أنه لا يخلو من “الأمل النابع من الإيمان بالحرية” وان طال الزمن أو قصر، وتتمثل رسالة الكاتب من خلال لغته الخاصة والتي تعكس تجربته الشخصية داخل المعتقلات يخرجها في “نتاج وقالب أدبي غالبا ما يسعى من خلاله تأكيد الرسالة الإنسانية العامة برفض الظلم وإعلاء قيم الحرية والاستقلال وكما نؤكد على ذلك في كل محفل أدبي يخص هذه الشريحة .
فهذا المعتمد بن عباد، ملك اشبيلية كتب أشعاره التي أصبحت تردد على كل لسان لصدق مشاعره وعمق ألمه، وهو في سجن (أغمات) المغربي.. حيث قال:
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً
فجاءك العيد في أغمات مأسوراً
ترى بناتك في الاطمار جائعة
يغزلن للناس ما يملك قطميراً
أما أبو فراس الحمداني كتب أروع قصائده،(الروميات) وهو في السجن وقال في قصيدته الشهيرة :- .
“أراك عصيّ الدمع”، التي غنتها سيدة الغناء العربي الراحلة “أم كلثوم”:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
“ولا تختلف الحالة العربية المعاصرة عن غيرها فهنالك الكثير مما كتبه المبدعون العرب، الذين امضوا فترات متفاوتة في السجون، وخاضوا هذه التجربة القاسية، في سجون وزنازين الأنظمة العربية ومن أبرز الذين مروا بتجربة الاعتقال الروائي المصري الذي ينتمي لجيل الستينات من القرن الماضي صنع اللـه إبراهيم “ولا شك أن تلك السنوات التي قضاها داخل السجن جعلت منه روائيا مميزا فهو من كتب ” تلك الرائحة”، وهنالك الأعمال الأدبية التي صورت التجربة الاعتقالية للكاتبة المصرية التقدمية فريدة النقاش والذي يحمل عنوان “السجن الوطن”، وكذلك رواية “شرق المتوسط ” لعبد الرحمن منيف، ورواية “تلك العتمة الباهرة ” للطاهر بن جلون، وأيضا رواية “القلعة الخامسة ” لفاضل الغزاوي، وسيرة شريف حتاتة “العين الزجاجية” وغيرها الكثير.
وللتسلسل الزمني في النتاج الإبداعي أهمية كبرى فمثلا أدبنا الفلسطيني (داخل حدود أل 48 )، كان له دورا ثقافيا من قبل شعراء وأدباء المقاومة في تنمية وتأصيل الوعي الثوري المقاتل وتعميق الشعور القومي، المناهض للسياسة القهرية والاضطهادية السلطوية، وصيانة الهوية الفلسطينية، وهذا أدى لأن يكون “سبباً في اعتقال هؤلاء الشعراء والمبدعين المناضلين والمكافحين في خمسينات وستينات القرن الماضي” وحتى فترة قريبة من كتابة هذه السطور، حيث اعتقل في 16\8\ 2017 شيخ الأقصى الشيخ رائد صلاح وهو أحد كتاب القصيدة العمودية المغناة، ومن الشعراء الذين كتبوا قصائدهم داخل زنازين الاحتلال في السنوات الأخيرة، حيث كتب قصائد أحد مجموعاته “زغاريد السجون” وهو في المعتقلات الإسرائيلية وتحت وطأة التعذيب والتحقيق.
وشاعر المرحلة الشاعر العالمي الراحل محمود درويش كان أيضا قد كتب من داخل زنزانته العديد من القصائد ومن قصيدة “آخر الليل”جاء :-“
وطني
يعلمني حديد سلاسلي… عنف النور
ورقة المتفائل
ما كنت اعرف تحت جلودنا
ميلاد عاصفة وعرس جداولة
وكما كتب المناضل الشاعر توفيق زياد* صاحب الفكر التقدمي ” الشيوعي” من داخل سجنه وكانت من أجمل نتاجاته الشعرية الملتزمة بالحرف المقاوم وقضية شعب يبحث عن استرداد حقه وحريته وتتمة حقوقه الإنسانية والوطنية ، ومنها قصيدة “سمر في السجن ” التي يقول فيها:
يا شعبي يا عود الند
يا أغلى من روحي عندي
إنا باقون على العهد
لم نرض عذاب الزنزانة
وقيود الظلم وقضبانه
ونقاس الجوع وحرمانه
وأما الشاعر سميح القاسم الذي تحدى السجان في قصيدته في إشارة إلى الأمل من خلال زيارة النهار له لو بعد حين، ” رسالة المعتقل”: قال:-
أومن يا أماه
أومن أن روعة الحياة… تولد في معتقلي
أومن أن زائري الأخير.. لن يكون
خفاش ليل.. مدلجاً بلا عيون…
لا بد أن يزورني النهار
“وفي الأدب الفلسطيني الذي ترعرع ونما تحت الاحتلال الإسرائيلي، هناك عدد كبير من الكتابات الشعرية والنثرية والروايات والقصة والأقصوصة والمقالة الخ، التي تروي تجربة الأسر والاعتقال السياسي التي تقشعر لها الأبدان”.
“وفي الإجمال، إن أدب السجون هو تجربة إبداعية وإنسانية حية صادقة ورائدة، لها خصوصيتها ومكانتها في أدبنا العربي والفلسطيني. وهذا الأدب يعكس بكل صدق وعفوية ألم القهر وعمق المعاناة وآثار التعذيب وصنوف الإذلال التي يتعرض لها المعتقل في الزنزانة وخلف القضبان، وتصميمه على مواجهة السجان والانتصار عليه”(1). وهذا الصنف الأدبي الذي كثرت تعريفاته لامتداده التاريخي العام والمحلي الفلسطيني الخاص، حيث يتم التداول مع بعض العناوين كمفهوم أدب السجون، وتاريخ أدب السجون، وأدبيات السجون، ومراحل تشكيل أدب المعتقلات، وأهم السجون والمعتقلات الإسرائيلية التي تخرج منها الكتاب،و ” الكتابة في السجون والأوضاع الثقافية والتعليمية إضافة لعدد الشعراء الذين كتبوا عن السجن والسجان ومقارعة الحبس والاحتلال، وروايات الأسر التي انتشرت و أضافت لهذا الأدب ميزة أخرى دعمت حضوره وخصوصيته في فلسطين، وما كتب نقدا عن “أدب السجون ” وكذلك أدب المذكرات” الذي يتحدث عن تجارب المعتقلين الأحياء منهم و الشهداء، والذين سُجلت مذكراتهم من قبل المهتمين بهذا الصنف الأدبي الهام،إضافة لأدبيات الرسائل والتي تعتبر نادرة بعد تحسين ظروف المعتقلين في غالب السجون الإسرائيلية إثر الاحتجاجات المتكررة في السنوات الأخيرة وتحديدا بعد توقيع اتفاقيات أوسلو..
.
إيمان مصاروة\\ فلسطين
ملاحق
*”*اتفاقية أوسلو “ي مجموعة من التفاهمات بين حكومة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، تضم إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي المعروف باتفاق أوسلو، والموقع في واشنطن في 1993[1] واتفاقية أوسلو 2، الموقعة في طابا عام 1995.[2] علمت اتفاقيات أوسلو بداية ما يسمى بعملية السلام، الساعية للوصول لمعاهدة سلام على أساس قرار مجلس الأمن 242 و338، ولتحقيق “حق الفلسطينيين بتقرير المصير”. بدأت عملية أوسلو بعد مفاوضات سرية في مدينة أوسلو، نتج عنها اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل واعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير كالممثل للشعب الفلسطيني وكشريك في المفاوضات.
* صنع الله إبراهيم (مواليد القاهرة 1937) روائي مصرى يميل إلى الفكر اليسارى ومن الكتاب المثيرين للجدل وخصوصاً بعد رفضه استلام جائزة الرواية العربية عام 2003 والتي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة. سُجن أكثر من خمس سنوات من 1959 إلى 1964 وذلك في سياق حملة شنّها جمال عبد الناصر ضدّ اليسار ويعد صنع الله إبراهيم أحد أكبر الروائيين المصريين..
* الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في إسرائيل منذ عام 1996] ولد في 1958 في أم الفحم،وحاصل على شهادة البكالوريوس في الشريعة الإسلامية، تولى منصب رئاسة بلدية أم الفحم ثلاثة مرات متتالية في الفترة الممتدة بين 1989 و2001. وفي العام 2000 أنتخب رئيسًا لجمعية الأقصى لرعاية المقدسات الإسلامية، وهو أول من كشف النقاب عن حفريات المسجد الأقصى ، اعتقل عدة مرات نتيجة مواقفه السياسي
1. قراءة في أدب السجون، شاكر فريد حسن، التجديد العربي، عدد 21/4/2011م. و24\2\2004 ،مجلة طنجة الأدبية قراءة عاجلة في أدب السجون ، ولقاء خاص مع الأديب شاكر حسن من قبل الباحثة في شهر آب 2017 .
*شاكر فريد حسن، كاتب وناقد فلسطيني، أحب الكتابة والقراءة منذ الصغر، فتثقف على نفسه وقرأ المئات من الكتب في مختلف المواضيع الأدبية ، والنقدية ، والفكرية ، والفلسفية ، والدينية ، والسياسية \كتب في مجالات مختلفة من الشعر والبحث والنقد والتراجم والمقالات السياسية والاجتماعية، وعالج الكثير من القضايا، والمسائل الثقافية، والظواهر الاجتماعية\نشرت كتاباته في الصحف والمجلات الثقافية والأدبية منها: مجلتي،الأنباء، الشعب، الميثاق، العهد، البيادر الأدبي، الفجر الأدبي ، الكاتب ،الحصاد، الشراع ،العودة، القدس، الأيام، الحياة الجديدة، الإتحاد، الجديد، الغد، المسار، الصنارة، كل العرب،العربي، وغيرها من الصحف الفلسطينية والعربية. بالإضافة إلى المواقع الإلكترونية المختلفة .
*”توفيق زياد توفيق أمين زيّاد (7 مايو 1929 – 5 يوليو 1994) شاعرا وكاتبا وسياسيا فلسطينيا من مدينة الناصرة، شغل منصب رئاسة بلدية الناصرة حتى وفاته، كما كان عضوا في الكنيست الإسرائيلي لعدّة دورات انتخابية عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي راكاح.
*محمود درويش (13 مارس 1941 – 9 أغسطس 2008)، أحد أهم الشعراء الفلسطينيين والعرب والعالميين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن. يعتبر درويش أحد أبرز من ساهم بتطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرمزية فيه. في شعر درويش يمتزج الحب بالوطن بالحبيبة الأنثى. قام بكتابة وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني [2] التي تم إعلانها في الجزائر. الشاعر محمد الفيتوري من السودان من أصدقاء الشاعر محمود درويش
* سميح القاسم أحد أهم وأشهر الشعراء العرب والفلسطينيين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والمقاومة من داخل أراضي العام 48، رئيس التحرير الفخري لصحيفة كل العرب، عضو سابق في الحزب الشيوعي. ولد لعائلة درزية في مدينة الزرقاء يوم 11 مايو 1939، وتعلّم في مدارس الرامة والناصرة. وعلّم في إحدى المدارس، ثم انصرف بعدها إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي قبل أن يترك الحزب ليتفرغ لعمله الأدبي