د. أحمد طاهر
مدير مركز الحوار للدراسات السياسية والإعلامية
على مدى أيام عاشت فنزويلا حالة الاحتفال بإتمام استحقاق رئاسى جديد شهد عديد ضمانات النزاهة والحياد والشفافية، كان أبرزها دعوة ما يقرب من ألف مراقب دولى من مختلف دول العالم، قدموا شهادتهم عما جرى في هذه الانتخابات بكل موضوعية، إذ امتلأت المواقع الالكترونية وكذلك مواقع التواصل الاجتماعى، بعديد المقالات والتقارير والتحليلات التي عبرت عن رؤيتهم ومشاهدتهم الفعلية لما تم؛ سواء خارج لجان الاقتراع أو داخلها، وأكدوا على أن الانتخابات جرت في جو من حياد الدولة وأجهزتها من ناحية، وحرص المواطنين الفنزويليين على المشاركة فيها من ناحية أخرى. فضلا عن هذه الشهادات التي ادلى بها المراقبون الدوليون، كانت قد اتخذت الدولة قرارا بإجراء تلك الانتخابات وللمرة الأولى وفقا للنظام التصويت الإلكتروني، حيث يعتمد الناخب على الادلاء بصوته الكترونيا عبر شاشة بها قائمة المرشحين العشرة يختار منها من يشاء ثم يضع قرار اختياره المسجل الكترونيا في صندوق التصويت ورقيا، بما يضمن ان تكون أوراق التصويت مطابقة كليةً لما هو موجود في مخرجات العملية الالكترونية، الامر الذى يؤكد أيضا على أن ثمة إرادة سياسية بأن تجرى هذه الانتخابات في جو من الحياد والنزاهة والشفافية.
ولكن، رغم كل ذلك استبقت المعارضة نتائج العملية الانتخابية بالطعن فيها متهمة الحكومة بتزويرها عبر التلاعب في نسب التصويت واحصاءاتها، بل بلغ الطعن في هذه النتائج درجة الشطط حينما تعلن المعارضة بأن مرشحها حصل على 72% من الأصوات في حين ان الفائز في الاستحقاق لم تتجاوز نسبته المعلنة 51.5%، وهى نسبة تعطى مؤشرا على حيادية العملية الانتخابية، فإذا كانت الحكومة تود ان تزور الانتخابات فلن تعطى لمرشحها فوزا بهذه النسبة المتواضعة، بل كانت ستعطيه نسبة مرتفعة على غرار ما يحدث في بعض البلدان حينما يحصل المرشح على ما فوق 90%. حينها من الممكن ان يكون مقبولا الطعن في هذه النتائج ولكن ما جرى في فنزويلا لم يعط مجالا لمثل هذا الطعن.
وعليه، فقد اضحى على المعارضة الفنزويلية التي ارتضت خوص غمار الانتخابات ان تسلم بالنتائج وان تحترم الإرادة الشعبية التي أتت بها، لأنه من غير المقبول او من غير المنطقى ان احترم النتيجة إذا ما جاءت في صالحى واتهم الاخرين بالتزوير إذا لم تكن النتيجة في صالح مرشحى، فهذا القول مخالفا كليةً لمفهوم الديمقراطية واجراءاتها، وهو ما يؤكد على أن المعارضة الفنزويلية لا تؤمن بالعملية الديمقراطية طالما لما تأت بها إلى الحكم، ويزيد الطين بلة ان تتجه المعارضة إلى العنف المسلح والبلطجة والاعتداء على المؤسسات الوطنية وحرق الإطارات لقطع الطرق، الأمر الذى يكشف عن ملاحظتين مهمتين: الأولى، أن نهج المعارضة الفنزويلية يتنافى مع قيم الديمقراطية واحترام مخرجاتها، فكان عليها بدلا من ان تلجأ إلى العنف والبلطجة حينما يكون لديها ملاحظات بشأن مخرجات العملية الانتخابية، كان يجب عليها أن تلجأ الى الطرق الشرعية والمشروعة التي رسمها الدستور والقانون، فثمة إجراءات في الطعن حددها القانون الفنزويلي، وهذا هو المسار الديمقراطى الصحيح، فحينما تلجأ إلى هذا المسار يمكنها ان تقدم ما لديها من حجج وبراهين تدعم وجهة نظرها، أما ان تلجأ إلى العنف فهذا ينسف مصداقيتها أمام الشارع الفنزويلي، وكان يجب على جميع الأطراف الإقليمية والدولية التي أيدتها أن تعيد النظر في مواقفها التي تخالف القانون لانه من غير المقبول دعم طرف يتبنى العنف والقتل والتخريب في سبيل التعبير عن رؤيته، فهذا الامر مجرم قانونا ومرفوض سياسيا.
اما الملاحظة الثانية، فهى تتعلق بالموقف الامريكى على وجه الخصوص بشأن ما افرزته العملية الانتخابية إذ عكست التصريحات الامريكية انحيازا واضحا لموقف المعارضة مشككة في العملية الانتخابية ومؤيدة ما لجأت إليه المعارضة من عنف واعتداء، وهو ما يؤكد على ان المعارضة الفنزويلية مدعومة كلية من الجانب الامريكى الذى شهد هو الاخر مثل هذه الاحداث في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في نوفمبر 2020 حينما لجأ الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب وانصاره إلى العنف والاعتداء على المؤسسات الامريكية، فكان الموقف الرسمي الامريكى حينها رفض هذه الاعتداءات واحالتها إلى القضاء لمعاقبة مرتكبيها رغم أن الخطاب الذى رفعه ترامب وانصاره هو ذات الخطاب الذى تكرره اليوم المعارضة الفنزويلية، وهو ما يكشف عن ان السياسة الامريكية في كل مواقفها تكيل بمكاييل عدة طبقا لمصالحها وليس مصالح الدول والشعوب. الامر الذى يضع المعارضة الفنزويلية في موقف مسئولية قانونية وسياسية.
ومن ثم، فالمعارضة الفنزويلية أمام اليوم خيار واحد فقط، وهو ان تستفيق من هذا الموقف وان تتبصر مواضع اقدامها وتحترم الإرادة الوطنية التي افرزت رئيسا منتحبا يحمل برنامجا وطنيا طموحا للوقوف في مواجهة الهيمنة الامريكية، خاصة وأن الشعب الفنزويلي يقف اليوم أيضا في مفترق طرق وعليه ان يختار عن وعى وقناعة مصلحته التي يتشارك فيها الجميع لتقرير المستقبل على قاعدة العيش المشترك التي أرسى قاعدتها الرئيس نيكولاس مادورو في لحظة فوزه حينما دعا في خطابه الى الحوار الوطنى والاستماع إلى الرؤى المختلفة شريطة الالتزام بالسلمية ورفض العنف والإرهاب، وهكذا تبنى الدول وتنهض المجتمعات بالحوار والتفاهم، ولعل التجربة المصرية التي أرسى ملامحها ووضع مرتكزاتها الرئيس عبد الفتاح السيسى في رفض أية جماعة تتبنى العنف وتنتهجه، ودعا إلى حوار وطنى افرز مخرجات عدة وضعتها الحكومة نصب عينها بهدف النهوض بالوطن وتحسين أوضاع مواطنيه.
وهنا تمثل دعوة الرئيس نيكولاس مادورو لإجراء حوارا وطنيا جامعا لكافة الأطراف، المسار الأكثر ملائمة إلى بناء المستقبل الفنزويلي في مواجهة التحديات التي تكاد تعصف بالدولة ومستقبل شعبها، وهذا هو الخيار الأخير للمعارضة الفنزويلية إذا ارادت ان يكون لها مكانة في بناء مستقبل الدولة الفنزويلية.