بقلم دكتور / خالد الجندي
مَن يطالع الأطروحات العلمية من ماجستير ودكتوراه فى حقل الإنسانيات بجامعات عربية عدة سيكتشف للوهلة الأولى أن أغلبها يفتقد إلى الدقة المنهجية، والأصالة العلمية، والقدرة على إضافة شىء لافت، أو إبداع جديد، بينما الجامعات ماضية فى منح الدرجات وفق آلية بيروقراطية، نالها الفساد والعطب الذى ضرب جنبات مؤسسات وهيئات ومسارات أخرى فى مجتمعاتنا، لنجد عشرات الآلاف ممن يحملون درجة مدرس أو أستاذ مساعد أو أستاذ، لا يرقى ما لديهم من إمكانية التفكير العلمى، والضبط المنهجى، والعمق المعرفى، إلى ما يحملونه.
إن وظائف البحث العلمى تتدرج صعودًا من «جمع المتفرق» إلى «إبداع الجديد» أو «اختراع المعدوم» مرورًا بـ«تكميل الناقص» و«تفصيل المجمل» و«تهذيب المطول» و«ترتيب المبعثر» و«تعيين المبهم» أو «تجلية الغامض» و«تبيين الخاطئ» و«نقد السائد»، لكن أغلب الرسائل الجامعية تدور فى الحدود الدنيا لتلك الوظائف.
فقد سيطر على ذهنية الباحثين ليس الوصول إلى جديد، أو حتى نقد المتداول والمتاح، إنما قص جمل أو عبارات، وأحيانًا صفحات كاملة، لآخرين، ثم إعادة لصقها فى صفحات جديدة، فتبدو فى حقيقتها أقرب لنبات انغرس فى وسط بيئى غير ملائم لنموه واستوائه على سوقه، فأصبح مصفرًا، ولا يُرجى منه ثمر. والطامة الكبرى فى هذا أن كثيرًا من الكتب أو الرسائل المنقول عنها، والمنسوب إليها، تكون قد أُعدت بالطريقة نفسها، ومن ثَمَّ تبدو العملية التعليمية أقرب إلى لبنات تتابع فى كومات مبعثرة، ورغم ضخامتها التى تملأ العيون، فإنها ليست أبنية مجهزة للسكن، يمكن الاستفادة منها، بل هى عثرات فى طريقنا.
.
والأخطر من كل هذا أن هناك جيلًا ممن يحملون لقب «أستاذ» ويشرفون على الأطروحات الجامعية، هم أنفسهم أبناء هذا المسار المعوج، ومن ثَمَّ فإنه لا طائل من انتظار أن يخرج من تحت أيدى هؤلاء باحثون، يرتقون بوظائف البحث العلمى.
هذه الحالة يمكن أن يُطلق عليها باطمئنان «الأمية المنهجية»، وهى فى نظرى أرذل أنواع الأميات، التى انشغلنا بها طويلًا، مثل الأمية الأبجدية والثقافية والسياسية والإلكترونية… إلخ، فالعلم بمدخله وليس بموضوعه، ومن ثَمَّ فإن امتلاك القدرة على التفكير السليم هو الأساس، ليس لمَن يعملون فى السلك الجامعى أو مراكز البحوث فحسب، بل لسائر مواطنى أى دولة، فمثل هذه الفضيلة تُمكِّنهم من الارتقاء بحيواتهم الخاصة ومجتمعاتهم.
والأمية المنهجية تلك لا علاقة لها بمستوى تحصيل المعلومات، ففى هذا أيضًا سير عكس اتجاه الزمن، ففى أيام المكتبات الإلكترونية ومحركات البحث على الشبكة العنكبوتية التى تأتى بالمعلومات من كل مكان، وبكل اللغات، يكون من العبث أن يجعل شخص همه هو حفظ معلومات متناثرة، ليستعرض بها أمام الناس، وليس امتلاك قدرة على بناء الحجة.
والأمية المنهجية ليست قرينة الأمية الأبجدية فى كل الأحوال، فهناك من الزرَّاع والصنَّاع والتجَّار البسطاء مَن رُزقت عقولهم تفكيرًا منطقيًا، يعينهم على حل مشكلاتهم الحياتية البسيطة والمعقدة. وهناك من بين الدارسين والمتعلمين مَن يتخبطون فى عشوائية التفكير، ويعانون تشوش الذهن، وتستعصى عليهم أدنى المشكلات التى تعترض طرقهم. ولهذا نجد فلاحًا ناجحًا فى مهنته ومهمته، مع أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، بينما نجد باحثًا أو أستاذًا عاجزًا عن أداء ما هو منوط به على أى وجه صائب لأنه يفتقد مكنة التفكير المنهجى الذى يعينه على فهم الأمور فهمًا سليمًا.
والأمية المنهجية لا تُمحى بتكثيف دراسة مناهج البحث واقتراباته، فهذا مجرد عامل مساعد، لكنها تختفى حين يتعلم الشخص كيف يستعمل أدوات التفكير العلمى فى التعامل مع مشكلاته البحثية والحياتية على حد سواء، منطلقًا من أن العلم يتسم بالنسبية، ويبدأ بالشك، وينفر من الإطلاقية والوثوقية، ويلهث دومًا وراء التحقق من المعلومات، وهو أيضًا يتعامل مع المعرفة بوصفها ذات طابع تراكمى، ويتسم بالموضوعية التى تخفف من تأثير الذاتى أو تُحيده، وينزع إلى وضع كل شىء موضع المساءلة. وتعلُّم هذا لا يكون فقط بعرض شروط التفكير العلمى وحفظها، إنما بالتدرب عليها، والتفاعل الخلاق بين أجيال الباحثين، والطموح الدائم إلى بلوغ آفاق جديدة، بتجاوز السائد والمتاح، وفضح المسكوت عنه، أو كشفه.
والأمية المنهجية لا تنتهى بين عشية وضحاها، ولا يجب أن تشغل القائمين على العملية التعليمية حيال طلاب الدراسات العليا فقط، بل إن الانتهاء منها هو عملية طويلة وشاقة وصارمة، تبدأ منذ التحاق التلميذ بالمدرسة، وتكبر معه كلما أوغل راحلًا فى مدارج العلم ومراتبه، فإن وصل إلى المرحلة التى عليه أن يشتغل بالبحث العلمى يكون قد تمكن من أدواته، وبالتالى يضيف باستمرار إلى ما هو قائم، ومن هنا تتحول الأطروحات العلمية إلى لبنات بعضها فوق بعض، فيعلو البنيان، أو خطوات تتلاحق فى اتجاه الهدف.
والأمية المنهجية لا يجب أن تُقابَل بكل هذه الاستهانة لحساب تعليم عابر يمد حياة العرب كل سنة بملايين الخريجين من الجامعات والمدارس الفنية دون أن يضمن أن كل هؤلاء قد امتلكوا، بعد سيرهم كل هذه السنين فى مساقات مدرسية وجامعية، منهجًا يُعينهم على تدبير أمورهم فى العمل والبيت والشارع، إن اكتفوا بالدرجات التعليمية الأولية، ويمدهم بكل أسباب النجاعة والنباهة والنجابة إن واصلوا دراساتهم العليا فى مختلف التخصصات والحقول العلمية.
إن الحالة المزرية التى عليها أغلب الأطروحات العلمية فى مجال الإنسانيات، والتى تغص بها أرفف المكتبات الجامعية، لن تتبدل وينقضى سوؤها إلا إذا أُعيد النظر فى العملية التعليمية برمتها، فانتقلت من حرص مريض على تخريج حفظة متعالمين بأى شكل وأى صيغة، إلى إصرار قوى وعفِىّ على صناعة جيل جديد من العلماء الحقيقيين، الذين تبدأ بهم رحلة مضادة للقضاء على الأمية المنهجية فى كلياتنا الجامعية ومدارسنا، ودون ذلك سيستمر ما نحن فيه من خسران مبين.