لواء د. سمير فرج
متابعة عادل شلبى
ما زالت رائحة البارود تنتشر في كل سماء أوكرانيا وما زالت الصواريخ الباليستية تشن ضرباتها ضد الأهداف الأوكرانية، والقوات الروسية تتقدم داخل أوكرانيا من خمس اتجاهات. وما زالت أفواج اللاجئين تتقدم في اتجاه الدول المجاورة طلباً للأمان، وما زالت الولايات المتحدة الأمريكية تزيد من العقوبات الاقتصادية تجاه روسيا، وما زالت الحرب النفسية والإعلامية والكلامية مشتعلة بين روسيا من جانب وأوكرانيا والولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جانب آخر، وما زالت المفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني تستمر دون أي نتائج حاسمة. وما زالت الأعمال القتالية مستمرة مع سقوط بعض المدن الأوكرانية في أيدي القوات الروسية، وما زالت بعض المدن الأوكرانية الأخرى محاصرة تمهيداً لسقوطها. ورغم كل ذلك لم يظهر على السطح من الفائز ومن المهزوم.
في البداية نقول إن هذه الحرب تم تصنيفها طبقاً للعلم العسكري أنها حرب تقليدية محدودة لأنها بين روسيا وأوكرانيا فقط، خاصة أن الولايات المتحدة ودول حلف الناتو قد أعلنوا منذ البداية عدم دخولهم هذه الحرب. أما مصطلح تقليدية فلأنها ليست حرب نووية. وعندما بدأ القتال كان بسبب رفض الولايات المتحدة ودول حلف الناتو تقديم تعهد مكتوب إلى روسيا ينص على عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو وعدم تواجد أي أسلحة أو معدات عسكرية داخل الأراضي الأوكرانية، والآن وبعد بدء القتال ارتفع سقف المطالب الروسية نحو أوكرانيا لتكون أن تصبح أوكرانيا دولة محايدة وأن تعلن عدم انضمامها لحلف الناتو مستقبلاً وأن يتم تصفية البنية التحتية العسكرية الأوكرانية تماماً، وأخيراً أن تعترف أوكرانيا بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا. بينما طالبت أوكرانيا بوقف إطلاق النار فوراً ثم انسحاب القوات الروسية الغازية فوراً من كل الأراضي الأوكرانية، وأخيراً إعادة شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا. ثم أضافت أوكرانيا في المفاوضات الأخيرة طلباً بقيام روسيا بفتح ممرات آمنة لخروج السكان المدنيين من أوكرانيا إلى الدول المجاورة.
وقد قامت القوات الروسية في بداية العمليات العسكرية بالهجوم على الأراضي الأوكرانية بأسلوب قتالي عسكري جديد لم يحدث من قبل وهو تنفيذ ضربة صاروخية باليستية ضد أهداف محددة بغرض تدمير البنية التحتية العسكرية الأوكرانية، وهو أسلوب قتال عسكري جديد لم يحدث من قبل بدلاً من البدء بالضربات الجوية. ولعل الهدف من ذلك كان تقليل حجم الخسائر الروسية حيث أن الصواريخ الباليستية أقل تكلفة من الطائرات، حيث يصل ثمن الطائرة F16 والسوخوي 35 إلى حوالي 100 مليون دولار. وقد نجحت روسيا خلال الأيام الخمسة الأولى من القتال من تدمير البنية التحتية العسكرية لأوكرانيا والتي شملت تدمير جميع مواقع صواريخ الدفاع الجوي من طراز S300 ومواقع الرادارات العسكرية، ثم مراكز القيادة والسيطرة ومراكز الحرب الالكترونية ومناطق التجمعات العسكرية والطائرات والقواعد العسكرية. الجديد أن هذه الضربات الصاروخية تمت بمصاحبة هجوم سيبراني روسي مكثف لإعاقة جميع الاتصالات وشبكات الرادار والقيادة والسيطرة. لذلك ومن بداية اليوم السادس لأعمال القتال حققت روسيا سيادة جوية كاملة على الأراضي الأوكرانية (Air Supremacy) وهذا ما دعى الرئيس الأوكراني إلى طلب أن تقوم الولايات المتحدة وحلف الناتو بعمل حظر جوي فوق الأراضي الأوكرانية وهو ما قوبل بالرفض، حيث يعني ذلك تدخل هذه الدول عسكرياً ضد روسيا في سماء أوكرانيا. وبعد تحقيق هذه السيادة الجوية في سماء أوكرانيا بدأت القوات البرية الروسية في محاصرة المدن الأوكرانية وعلى رأسها العاصمة كييف. وقد تساءل العديد منذ البداية كيف لم تسقط كييف وغيرها من المدن الأوكرانية في الأيام الأولى من القتال. وهنا نوضح أن القتال في المدن هو أصعب أشكال العمليات الهجومية حيث أن ذلك يعني خسائر كبيرة بين المدنيين من السكان، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك ففي حرب أكتوبر 1973 فشلت القوات الإسرائيلية في الاستيلاء على مدينة السويس وتم تدمير دباباتها في حي الأربعين في مدخل المدينة، حيث نجح أبطال المقاومة الشعبية في السويس بالأسلحة الخفيفة المضادة للدبابات في صد الهجوم الإسرائيلي. لذلك قامت القوات الروسية بمحاصرة جميع المدن الكبرى الأوكرانية وبدأت من خلال هذا الحصار بالتقدم ببطء داخل المدن بهدف احداث أقل خسائر في صفوف المدنيين الأوكرانيين، حيث أعلن الرئيس بوتن أن أوكرانيا جزء من روسيا ولا نريد أن نخرج من هذه الحرب وقد خسرنا الشعب الأوكراني.
وعندما تحدثت الأطراف عن القدرات النووية لكل جانب فاعتقد أن هذه الأحاديث جاءت في إطار الحرب النفسية، حيث أن جميع الدول لا ترغب في استخدام السلاح النووي حيث يعني ذلك فناء البشرية لأن كل طرف سواء الروسي أو الأمريكي يملك من الأسلحة ما يكفي لتدمير العالم بالكامل. لذلك ليس من المتوقع لأي طرف استخدام هذه القدرات النووية. أما الجديد في ذلك الصراع هو عودة الحياة والترابط داخل حلف الناتو، ذلك الحلف الذي عقب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عنه أنه يعاني من موت سريري، بل ذهب ماكرون لإعلان ضرورة تشكيل قوة عسكرية وجيش أوروبي موحد بديلاً عن حلف الناتو. لكن جاءت هذه الأحداث لتعلن إعادة توحد قوات الناتو من جديد وهذا في اعتقادي من أكبر المكاسب الغربية في الحرب الروسية الأوكرانية. كما ظهرت أيضاً مفاجأة جديدة من تلك الحرب وهي قيام المانيا بالبدء في إنشاء قوة عسكرية جديدة بعد أن كانت تعول في أمنها القومي بشكل رئيسي على حلف الناتو، حيث أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس تخصيص 100 مليار يورو للبدء في تطوير القدرة العسكرية الألمانية في الفترة القادمة بعد أن شعرت ألمانيا أنه يجب الاعتماد على نفسها وعلى قدراتها العسكرية ضد أي مخاطر مستقبلية وألا تعتمد على الآخرين.
تلك كانت التحليلات الأولية مع الأيام الأولى من القتال بين روسيا وأوكرانيا والذي لا نعلم حتى الآن كيف ستكون النهاية لأول نزاع عسكري في القرن الواحد والعشرين.