حامد حبيب -مصر
أحياناً يُحتّم الحياء الرومانسى حقّ اللجوء البوحى
إلى وسائل أخرى غير التصريح المباشر، فيلجأ إلى
الإيحاء على لسان القلم والنّص الشعرى…هكذا لجأت
الشاعرة (أريج محمد) المقيمة بالسودان إلى حقِّ
اللجوء الوجدانى لدولةِ القلم فى ديوانها:
“منازل الوجد”
_ فى دولةِ القلم ، توارت خلف كواليس الكلمات بمجازاتها ، تنتقل فى منازل الوجد ، ترتقيها أو تنتقلُ بينها على حياءٍ ب” يَشمَك ” المجازية ،
وقد أودعت القلمَ أسرارها :
وحدُه القلَم يعرفُ كلَّ شئ
يعرفُ كلَّ مايكتُبه ومالم يكتبه
رئةٌ ثالثة تنبض بين دفّتَين من فرحٍ ووَجع
…………….
حينَ تضيقُ دروبُ الأرضِ
أفارقُ خطواتى لألقاك
على جَناحِ غَيمةٍ أو على صفحةِ القمَر
………
عالَمٌ رومانسى له مفرداته الخاصة ، وتركيباته الخاصة ، والصورةُ الشعريّةُ فيه هى أُهم مكوّناته
إلى جانب اللغة المتفرّدة ..تروحُ وتجئُ بين أروقتِه
كأنها تعيشُ فى قصرٍ خاص ،هى التى ترسمُ لوحاتِه
كلُّ لوحةٍ ، صورة تشكيلية تحملُ إيحاءاتٍ تتعدّدُ
معها التأمُّلات والتأويلات ، وهى كأنها فى هذا
القصر الواسع لاتملكُ سوى المناجاة عبر تلك اللوحات..سوى إرسال نبضات القلب عبر القلم :
هكذا أنتَ تجتاحُنى بصخَبِ العِشق
وتمرُّد الرَّغبة
مَن دقَّ إسفيناً فى المُنتصَف
بين لُغَتى ولُغتِك
وأنا أضمدُ جراحَ الصَّمتِ فى لُغَتى
أحتاجُ جسراً من تنهُّداتى
لِأهديكَ نَصّاً
………..
النصُّ الشعرى هو الأثيرُ الذى تبُثُّ وجدَها مِن خلالِه
ولفظةُ ” النص ” ذُكِرت أكثر من مرّة بالتبادُل مع “قصيدة” : لأهديكَ نصّاً_أُسكِنهُ نصّاّ_انبعاثُ قصيدة
_يغادرُنى قصيدة)…بتبادل اللّفظَينِ ، وكلاهما واحد.
غريبةٌ أنا …
حرفى منفاىَ الأعظَم
أُسكنهُ نصّاّ
عندما تضيقُ الأمكِنة
وتضجُّ الرّوح
أسكنهُ على الورَق كما أشتهى
ومِن ثنايا الترقُّب
يتفصّدُ البوح
يسقى ظمأَ المجَاز
…………
حالةٌ مِن الأناقةِ الشِّعرية ، فلاصُراخ ، ولا لونٌ صارخ
ولا أى عُنصر من عناصر تكوين القصيدةِ تجاوزَ حدّه
كلُّ شئٍ يتمّ التعبير عنه فى هدوء الملِكات الأنيقات
باستثناء بعض الألفاظ التى علا صوتُها ، ربّما لعدم
القدرة على التحمّل الزائد، مثل:
اللّعنة على الحضورِ والغياب
على مواعيدها المُعلّقة
…………
فالعشقُ غلّابٌ ، ويقوى على هزيمتنا .
وإمّا لإظهار القُدرة على التحدّى دفاعاً عن هذا الوجد :
كما أردتَنى …
امرأةً من نورٍ ونار
أُضئُ عتمَتَك
وأحرقُ بقايا نسائِك المنسيَّاتِ..
فى جُبِّ الذاكِرة
………
وإمّا محاولة إثباتِ وجودها بداخِلِه، مما لايدعُ مجالاً
للنُّكران:
أنا صوتٌ يتفجَّرُ من عُمقِ ذاتِك
يجرى فى صحرائكَ المُوحِشة
مُحَمَّلاً بأكاليلٍِ من زهرِ البيلسان
ينشرُ عِطرَ المِحَن
تنتشى روحُك من عذوبتِه
………..
واعترافٌ مؤكَّد بحُبّها له :
جميلٌ أنت كحُلمٍ يُغافلُ النّومَ
لِيُرافقَ صَحوى
أىّ سحرٍ تبثُّنى إيّاه
لأستحيلَ غيمةً أسكنُ السماء
………….
هذا المزجُ بين التلميحِ والتصريحِ يخرجنا من حالات الرتابة التى قد تُصيبُ العملَ ،إذا اعتمد على أحدِهما دون الآخر ، ويأتى ذلك بحَسب ماتقتضيه
الحالة الشعورية ، لأن حالات الوجدِ بطبيعتها تتّسمُ
بالاضطراب الشعوري والوجدانى ، فهناك حالاتُ الفرح لا نقوى فيها على المداراة ، وهناك حالات الاعتزاز بالنفس أو الحياء ، نحتاج فيها التلميح والإيحاء،أو يأتى المزجُ بينهما فى حالات الاضطراب
الوجدانى، كقولها :
كان علينا ألّا ننسي
كان عليك ألاّ ترحل
فأحلامُك ماتت ظمأى…
فى حضنِ الماء
لم تنفعها طيبةُ قلبِك
……………
يغمرُنى الشوقُ لنُقطةِ ضَوء
آخُذها مِن عَينِ الشمس
أعلِّقها فى عنُقِ يمامة
تُلقيها فى عرض البحر
فى قلبِك ظلامِ الموت
كان علينا ألا ننسى
كان عليك ألّا ترحل
…………….
هى كمُهندس ديكور بارع ، لكنها لم تلجأ لزخرفة المشاعر ، إنما أجادت صياغتها وهندست صورتها
ببراعة ، مع الفارق أن هندسة الشعر لها صعوبات
أكبر، فكيف أرسم مشاعرى على لوحةٍ وأبرزها لتبدو
حقيقتها الرائعة وأجذبه لتأمّلها .. تلك مهمة صعبة
بالفعل.
كان لديها انتقاءٌ الألفاظ ، لكيفية صياغةِ العبارة،
لبَروزة الصورةِ الشعرية فى شكلٍ هندسي أنيق :
منذُ أيّامٍ والعتمةُ تقيم فى عينى
والحَرفُ يفترشُ ناصيةَ الوجع
ويدى تتلمّس جدران الفراغ..
خوفَ الاصطدام
أفتقدُ السماءَ ونجومها إلى الطرقات
وأعمدة الإنارة
رفيقة العُشّاقِ
أنيسة الأرصِفة
فيهزمنى بياضُ الورق
وينكسرُ خاطرُ القلَم
صوت..حركة..ألوان…كل العناصر التى تبثّ الحيوية
فى جسد القصيدة ، وتجعل منها جسداً حياً، وقلباً
نابضاً وعقلاً مفكّراّ ، ساعد على ذلك وحدة موضوع
الديوان، فلم يخرج عن إطار الوَجد ، حتى صارت
قصائدها هى المعادل الوجدانى والشعورى للشاعرة
بل رسمت بعض ملامح شخصيتها ، كطريقة تفكيرها
وسعة ثقافتها.
ونختم لها بقولها فى قصيدة” لُغةُ الصمت”:
أكتبُ بِلُغةِ الصّمت مايروقُ لى
كلماتٍ عرجاءَ …
لاتتمكّن من الوصولِ لأىّ مكان