بقلم عفيف قاووق.
رواية “السوط والصدى” للكاتبة الجزائرية عائشة بنور، لها لا تكفي قراءة واحدة لها بل يلزمها قراءات مثنى وثلاث ورُباع ليس لصعوبة لغتها التي جاءت سهلة ورشيقة، بل لأن الكاتبة إمتلكت من الجرأة ما جعلها تقارب قضية إشكالية لا تزال تعصف بمعظم بلداننا العربية،ألا وهي قضية التطرف الديني والجماعات المسلحة التي تنتهج العنف والقتل وسيلة للتغيير.
ما يُميز هذه الرواية نُدرة الشخصيات فيها،فقد إقتصرت بشكل رئيسي على شخصيتي هند وصديقها رياض، إضافة إلى قِلة من الشخصيات التي تخدم فكرة الرواية التي أتت كطاولة حوار وجدل فكري بين هند الإنسانة المثقفة التي تحتكم للعقل، ورياض صديقها الذي تحول من شخص منفتح ومتزن إلى إنسان يُكَفِرأكثر مما يُفكِر.وبعبارة أخرى فإن نقطة الخلاف الجوهرية بين هند ورياض تكمن في أن هند بما تمثله من فكر إنساني ينشد الحرية والتغيير من خلال المؤسسات لكن ضمن ضوابط أخلاقية، فهي تحرص على مراعاة البيئة المجتمعية التي تعيش فيها ولا تحبذ التمرد بالكامل على كل ما هو قائم . في حين أن رياض يرى عكس ذلك تماما، يؤمن بهدم الهيكل من أساسه وبأن “التكفیر ھو الوسیلة الوحیدة التي يمكن السیطرة بھا على أفكار المجتمع” (ص57).
في هذه الرواية تولت هند دور السارد العليم، هي الفتاة المثقفة المشبعة حُباً بالوطن وقيَمه ولا ترتضي عنه بديلا رغم ما يعتريه من جراحات وتجاوزات وغيرها، ” كنت كلما قررت المقارنة بين وطني وباريس مدينة الجنون في كل شيء، في النظام،في القانون وفي الجمال، يغلبني عشقي وحنيني إلى وطني بإمتلاكه السحر والجمال وروح الشهداء ترفرف حوله وتحميه، فأغفر ذنوب ما فعل الساسة بنا(ص89).
السوط والصدى، كما أسلفنا تناقش موجة التطرف الديني والأساليب العنفية للجماعات المؤمنة بهذا الفكر، نقاش دائر بين رياض وهند التي توهمت أن علاقة الحب التي تربطهما كفيلة بإزالة كل إختلاف في الرؤى بينهما ولكن صراع الأفكار وتنافرها كان أقوى من تلك العلاقة، هذا الصراع الذي لم يفز فيه أحد، فقد خسرت هند حبها لرياض، بالقول “أن كل أحلامي إنكسرت”، كما أن رياض خسر نفسه وعاش مضطربا مشوش الرؤية.
بلُغةٍ حوارية راقية ومقارعة الحُجة بالحُجة إستطاعت الكاتبة أن تنأى بنفسها عن أي إنحياز أو تواطؤ مع أي من وجهتي نظر هند ورياض، فكانت ديمقراطية إلى أبعد الحدود بمنحها المساحة المطلوبة والكافية لكل منهما لإبراز وجهة نظره والدفاع عنها. وبرأيي هذه الحيادية من قبل الكاتبة خرقها فقط إشارتها على لسان هند عندما راودها الحنين إلى ما كانت عليه الجزائر أيام حكم الرئيس الراحل بومدين.” لقد إغتيلت الوطنية في نفوسنا يوم مات الرئيس الذي كان يجيد صنع القرار، سياسي محنك وأب وقور،وبموته ماتت معه الوطنية والوطن (ص121).
يستشف من هذه الإشارة التي ربطت موت الوطنية بموت الرئيس ، بأن الجزائر ستشهد بداية إنكشاف ما يُخطط لها وما ينتظرها من إضطرابات وصراعات، فعندما تكون الجبهة الداخلية هشة تتحكم فيها الاراء والمشارب المختلفة تصبح الأرضیة مھیّأة، لبروز تيارات دينية وافكار تكفيرية تدعو الى الإنقضاض على كل ما هو قائم من قیّم وسلوكيات ، وترى في العنف وسيلة لتحقيق مشروعها السياسي، ولم تتورع عن ممارسة “إغتيالات في وضح النهار طالت الصحفي والمثقف والشرطي ناهيك عن حالات الإغتصاب الجماعي لفتيات في عمر الزهور”(ص13). هذه الجماعات المتطرفة إستطاعت التغلغل إلى المجتمع الجزائري ونجحت في تجنيد العديد من الشبان والرجال تحت ستار الدين والفضيلة وكان رياض ضمن الذين تم إصطيادهم بواسطة ثلاثة رجال بعباءات بيضاء وسراويل قصيرة حيث تغيرت مفاهيمه وسلوكياته بشكل لافت . تصف هند حاله بالقول،” كأنه يعيش إضطرابا نفسيا وكأنه يدافع مرغما عن أفكار فرضت عليه”.
جملة من المشاهدات والممارسات لحظتها الرواية حيث أبرزت الرأي والرأي الآخر، فكما أضاءت على الأساليب المعتمدة من قبل النظام في مواجهة حركات التكفير عبر الإعتقالات وزجهم في السجون، وقد عبر رياض عن ذلك مخاطباً هند” أين كنتم حينما زجّ بنا في السجون تحت سياط التعذيب بسبب أفكارنا ؟” . بالمقابل أبرزت الرواية الجانب المظلم والظالم لهذه الجماعات التي تعتمد التكفير والقتل وسيلة لتحقيق مبتغاها. فلم يجد رياض حرجا في القول بأنه يؤمن بأن التكفير يبرر كل التجاوزات ،وفي فرض الفكرة بالقوة لأن من يملك القوة يجب أن يُطاع ، ويدين له الجميع مبرراً تطرفه بأن السلطة التي تدعي حرية الفكر وتضمن حرية التعبير لم تناقش فكر جماعته،بل على العكس عمدت إلى تعذيبهم وقتل الكثير منهم ، ولهذا فإن رياض وجماعته يرون ان الإقتصاص من الدولة وممن سكت عن فعلتها أمر منطقي وواجب شرعي . ليأتيه الرد على لسان هند قائلة انكم بذلك تتساوون بالظلم مع السلطة ، “فإذا كانت السلطة تُسكت العقول في الزنزانات وهو الموت البطيء، فأنتم تقطعون الرؤوس، وتستعجلون بذلك الموت البعید”(ص86).
كذلك أشارت الرواية إلى السياسة القمعية التي قد تلجأ إليها الدولة لمواجهة الخصوم وتصفية مراكز القوى التي قد تنشأ داخل الصف الواحد، من هنا كانت السجون أقرب إلى سجون النسيان أو التجاهل أو الإخفاء القسري ، ومن كانت ومازالت لهم أمجاد يذكرها التاريخ أصبحوا نزلاء الزنازين التي كما تعج بمن وصِفوا بسجناء الرأي من جماعة رياض، الذين لم یكن لدیهم الحق على حد قولهم في الدفاع عن أنفسهم، سجنوا دون محاكمة وعذبوا في غیاھب صحراء قاحلة، كذلك فإن هذه السجون قد إحتوت أيضا فئة ثانية من المساجين تحت مُسمي سجناء الثورة، لقد سجنت الثورة أبناءها بعد أن كتبوا التاريخ بدمائهم ولكن هذا التاريخ دفن معهم تاركين الثورة والوطن أمانة لدى الشعب. وكما لسجناء الرأي والثورة زنزاناتهم فإن كثيرا من المثقفين الأدباء والشعراء الذين إغتيلوا معنويا قد رميوا في زنزانة “كانت فيها الأقلام والأوراق مبعثـرة، تخط على الورق أشعارا للوطن والحب” (ص129).ّ
هذه الإعتقالات على تنوع مشارب من طالتهم تعيدنا الكاتبة إلى أن هذه الجماعات المسلحة وبعض مراكز السلطة لا يوجد في قاموسهما شيئأً إسمه الحوار بل القمع هو من يتقدم على كل الخيارات وليس أبلغ من قول الدكتورة نوال السعداوي الذي ذكرته الرواية شاهدا وشهيدا على ما نقول:” قتلوا مفكرین وأدباء، ھـم یحملون بندقیة ونحن نحمل قلما، ھم یقتلون وأنا الآن أتكلَّم، یعني قدمت أرائي وكتبي، فلیناقشوني في كتبي، لكن ھم لا یناقشون، ھم یقتلون مباشرة.(ص59).
لم تغب المرأة في هذه الرواية ، فقد أفردت لها مساحة لا بأس بها لتعرض لنا ما تعانية من ممارسات عنفية وتسلط يبدأ من داخل أسرتها وصولاً إلى نظرة المجتمع الدونية لها، ولأن مجتمعاتنا العربية للأسف لا تزال مجتمعات ذكورية بإمتياز بالرغم من المحاولات الخجولة لدفع هذه التهمة، فالسلطة الأبوية الذكورية لا تزال تنتقل إما توريثا أو تفويضا من الأب إلى الإبن وهنا مكمن الخطر عندما يُفوض الاب سلطته الابوية على بناته إلى إبنه الذي غالبا ما تكون غايته هي إثبات رجولته وقيمومته على أخته ليتباهى بذلك أمام أترابه، ولقد عبرت هند بالقول “صدمة لي أن یتخلى الأب عن سلطته كأب، ویترك الأمور بید طفل یوھم نفسـه أنه عارف بخبایـا المجتمغ، لقد سلبوا حقًا من حقوقي الشخصیة، باسم الأخوة والعادات والتقالیـد، والتي ولَّدت عنفاً كانت نتائجه تلك الھوة العمیقة بین الأخ والأخت، والأب والبنت وآخرھـا الضیاع(ص37).
وتسترسل هند في توصيف معاناة البنت في ظل “مجتمع أبوي لا یسمح للفتاة أن تعبر عن ذاتھا، خشیة أن یفقد سلطته أو أبویته، وإن كان لھا ذلك فلا بد أن تخضع لمعاییر ذكوریة متسلطة، وقوانین وأحكام مقولبة، وإن تعدَّتھا تصنف كحالة شاذّة یجوز ترویضھا بأقصى أنواع التعنیف النفسي والجسدي”(ص38).
جانب آخر من الجوانب المظلمة التي طالت المرأة وهي من تداعيات سيطرة الجماعات التكفيرية على بعض المناطق تجلت إحدى صورها في معاناة سماح الفتاة الجامعية التي تحطمت أحلامھا وتعرضت مع رفيقاتها وھیبة، نادیة، وخدیجة للإغتصاب من قِبل رجال.. بل وحوش بشریة “كان لباسھم یحاكي ثیاب مدینة كابول وعددھـم یفـوق العشرة وأنا والأخریات كنّا للمتعة الجنسیة. من الأمیر إلى أبسط سفاح عنده، زواج تقرره الجماعة وإیـّانا أن نرفض أو نعارض(135). لتسأل لاحقا ـ”من يعيد لي غشاء البكارة الذي فضته يد الإجرام ويمسح دموعي وأنيني؟ ـمن يعيد لي طمأنينتي وكبريائي، وثقتي بنفسي وبوطني وأهلي، من یتزوج بي؟ ـ ھل العادات والتقالید ترحمني وتسترني، وتغلق أفواه النسوة، وتغمض عیون الھمز واللّمز، وتعلن الزغارید في بیتنا، وأرفع رأسي دون حیاء (139).
صور أخرى من صور المطاردات التي تعرضت له المرأة جسدتها مليكة المعلمة التربوية التي تنادي بضرورة العمل على تطوير المناهج التربوية ، وترفض منهجية التفكیرالآحادي للمجتمع وللمؤسسات. وتسعى إلى إدخال نظم جديدة لتُعتمد كفكرٍ تربوي حديث لكنها إكتشفت أن الإقتراب من ملف التربیة دونه محاذير، فثوابت الأمة لا نقاش فیھا،وهناك صعوبة في تطعيم المجتمع بأفكار یرفضھا، فقط لأنھا جاءت من وراء البحر، ويرونها انها تخدم سیاسة استعماریة جدیدة، فلا يعقل القبول بسهولة بالتحوّل من النقیض إلى النقیض. وقد سعت هند إلى التخفيف من خيبة أمل مليكة في عدم نجاحها في تطوير التعليم، مستشهدة بقول صديقتها نوال ” لقد قالت صدیقتي الدكتورة نوال یوما:” أنظمة التعلیم ھزیلة وقائمة على الطاعة، ولیس الابتكار، ولا النقد، ولا حتى الإبداع، إنھا قائمة على الخضوع؟(33و34).
لا يخفى علينا كقراء إهتمام الكاتبة عائشة بنور في مختلف رواياتها بالمرأة الجزائرية خصوصا والعربية عموما وأهمية الدور المأمول منها ان تلعبه في المجتمع وسعيها الدؤوب لتغيير الصورة النمطية التي تم وسمها بها محملة إياها بعض المسؤولية نتيجة خضوعها والتفريط بجسدها ، تقول هند مخاطبة رياض ” كل الذي یھمني أن تكون المرأة، امرأة تأبى الخضوع، تمقت التمرّد، وإھانة نفسھا، امرأة ذات شخصیة قوّیة،عاقلة و مسؤولة، لقد أصبح ینظر للمرأة على أنھا مجرد جسد لمیزة الجمال، وصفة الإمتاع والتسلیة، وغیرھا، وھي من جھة أخرى التي نزلت بنفسھا ھذه المنزلة الوضیعة، تعبث بجسدھا، وتحط من قدرھا فظلّت محل التھم لارتكابھا المعاصي..(ص49).
ولتأكيد ان هذه القضية قضية جامعة في المجتمع العربي ، نراها تستشهد ببعض أقوال وكنابات غيرها من الأدباء، وإستعانتها بقول الأديبة نوال السعداوي ” المرأة قضیة سیاسیة، اقتصادیة وجنسیة. العنف الموجه ضد المرأة لیس فقط عنفا جنسیا، وإنما عنفا اقتصـادیا وسیاسیا وأخلاقیا ودینیا(ص48).
ختاما فإن رواية السوط والصدى هي رواية الفعل وردة الفعل فإذا كانت ممارسات السلطة العنفية التي قهرت شعوبها وتحاول إخضاعهم بهذا السوط ، فإن الإفراط في إستعماله لا بد وان يتردد صداه كردة فعل عكسية تمظهرت في بعض صورها بإعتماد جماعات متطرفة لأساليب القتل والعبث بأمن البلاد والعباد.
“السوط والصدى” في كل صفحة من صفحاتها تستفز القارىء قضية ما وإشكالية فكرية حاضرة، وكما قلت في بدايه هذه المقالة ان الرواية تتطلب أكثر من قراءة لفك رموزها فمن المؤكد أيضا ان هذه الرواية سيتم تناولها من أكثر من زاوية وبأراء ومواقف مختلفة . شكرا للكاتبة عائشة بنور القادرة على إيصال ما تريد وعلى الإستفزاز الايجابي للقارىء.