كتبت – منار ربيع
حين بدأت قراءة رواية “تدريبات على القسوة” للكاتبة الكبيرة عزة سلطان ،كنت أظن أنني سأقرأ بوح امرأة مثقفة طحنتها الحياة كما فعلت بالكثير من المثقفات اللائي يكافحن من أجل إثبات وجودهن..لكنني فوجئت منذ البداية بجمل لم أتوقع أن تكتبها كاتبة عادية مما دفعني إلى التواصل مع الكاتبة والتي سألتها عمن كتب السطور الأولى ..
خالفت الرواية كل ظنوني وهي كثيرة فلم تحك عن ويلاتها وخيباتها حياتها أو حيوات صديقاتها الكثيرات بل اختارت أن تتماهى مع فتاة تقتات من خلال جسدها..
لم تكن صدمة عميقة بالنسبة إلي أن اتعرف على الشخصية المحورية والتي أبدعت الكاتبة في وصف حياتها وطفولتها والأسباب التي دفعتها إلى اختيار ذلك الطريق الموحش والذي يقتل من تختاره .
البطلة هي فتاة مثقفة بلا اسم ..كانت غلطتها هي الوقوع تحت ظلال أم لم تستطع تنشئتها على شيء لا يشبهها ،فرطت وتساهلت فخرجت علينا الفتاة مترعة بالتجارب التي تتجاوزها سناً بكثير بكثير فلم تجد بيتاً محافظاً يعلمها كيف تحافظ على نفسها وسط غيلان الخارج..
كانت ضحية أم فشلت في ان تكون خائنة وعم لا يردعه عن رغباته أن من ينتهكها هي ابنة شقيقه القاصر وصديقة ذات نقاط ثلاثة كانت تتعالى عليها رغم الصداقة ..كما انها وقعت ضحية لأسوأ نظام تعليمي جعل مجموعها الصغير في الثانوية العامة مبرراً لئلا تدخل الكلية التي كانت تتمناها فبدأ من هنا الانخراط في عالم الضياع وغن أنها فتاة نقية تحمل قلباً ناصعاً تساعد من يحتاج ولم تتخل ابداً عن أسرتها رغم كل ما فعلوا بها..
لم نعرف خلال الرواية اسم البطلة ولا صديقاتها ولا طفلها الذي تخلت عنه حين ميلاده كان الاسم الوحيد الذي تردده دوما هو اسم صديقتها “ليلى”والتي ظلت تحكي لها وتحادثها طوال الرواية متشبثة بها .
لم يتبين إن كانت صديقة حقيقة تحكي لها أم أنها صديقة متخيلة كما كان يفعل شعراء الجاهلية في معلقاتهم القوية حين يستدعون صديقين يحادثانهم في بداية القصائد..وربما كانت صديقة قديمة افترقا لسبب لم اتبينه من خلال قراءتي ..
كانت الكاتبة تمسك بأطراف الحكي ببراعة وتركيز محافظة على رتم سريع غير ممل رغم أنني أضعت اتجاهاتي في عدة مواضع بسبب عدم وجود أسماء تارة وبسبب عدم ترتيب المواقف لكنني سرعان ما كنت أستعيد بوصلتي مرة ثانية .
هي رواية إيروتيكية بامتياز تحكي سيرة ذاتية لبائعة هوى استخدمت فيها الكاتبة ألفاظ فصحى مسمية الأسماء بمسمياتها لكنها لم تعبر أبداً بابتذال بل كانت تعبر عن أدق المواقف برقى وترفع..حيث اختارت بطلتها مثقفة جدا ومطلعة على كتب الفلسفة والدين ويبدو أنها مناصرة جدا لحقوق المرأة وتمتلك وعي وثقافة رفيعة وهنا ارتفع صوت الكاتبة وخفت صوت البطلة ..في المناطق التي تتحدث عن الدين والحريات والثقافة فقد شعرت حينها بلهجة خطابية تمرر من خلالها الكاتبة أفكارها التقدمية المعتدلة المناصرة للمرأة والمعادية لكل من يستغل امرأة أو وطن أو دين وهنا ظهرت ثقافة الكاتبة الواسعة والتي جعلتني اغفر لها بسهولة هذا الصوت المجلجل..
غبطت الكاتبة وتمنيت أن أكون بمثل جرأتها على الحكي فقد كان سردها للمواقف لا تنقصه الجرأة والتي تخشى كل الكاتبات الدخول إلى تلك المنطقة الخطرة والتي قد تتسبب لها في أذى كبير فمازلنا في مجتمع لا يفرق بين الكاتب ومنجزه الأدبي لكنها إنسانة شجاعة تحدت المجتمع وكهنته واستطاعت رغم ضعف موقف البطلة اجتماعياَ ان تعري مجتمعاً كاملاً يتخذ من المرأة ألعوبة انتقام يمارس من خلالها سطوته ويعوض بإيذائها نقصه ..
غلاف الرواية معبر جدا عما بداخلها حيث تم اختيار اللون الأحمر الموحي لكنها وضعت فوقه قلباً جريحاً تحاول معالجته رغم أنها تعلم جيداً أن لا أمل في علاجه ولا طريق لشفائه.
كرست الكاتبة مفهوماً هاماً ربما لم ألتفت إليه إلا في الجزء الأخير من الرواية ..نعم من نحب ومن نعيش من أجلهم هم سبب خيباتنا وقهرنا وضياعنا..وعلى الجميع ألا يتماهى مع من يحب و نضع حدوداً فاصلة لا يتخطاها أحد منعاً للإيذاء
كانت التفاصيل هي ما جعلتني أتعاطف جدا مع بطلة بلا اسم ،تفاصيل القهر والظلم والمحبة والخداع كيفية تعاملها مع الرجال واصطيادهم بطريقة راقية مختلفة ، انكساراتها وضعفها قوتها وذكائها الشديد رغم جريمتها في حق طفلها الوليد .
لم تكن النهاية بمستوى الرواية أبداً فقد كانت سريعة مبتورة كمن أفاق من حلم على صفعة ، أصابتني بخيبة الأمل فكما عاشت ضحية انتهت بنفس الطريقة الظالمة ، كنت اتمنى من الكاتبة وهي انسانة مستنيرة أن تضع الحلول و تنير شموع الرحمة في طريق الفتيات التي تجبرهن الظروف على السير في هذا الطريق لا أن تكون جلاداً آخر يخبرهن أن لا أمل في حياة مستقرة نظيفة ،لا امل في حب لا أمل في توبة تصحح المسار ..