سارة رشيدي..
هل تملك أن تحبس دموعك، إذا كان هناك من ينزف الألم أمام ناظريك؟
وهل تملك في ذات الوقت ألا تفرح من فرط الأمل الذي يبديه لك من كان ينزف الألم؟
هذا ليس ضربا من الخيال، لكنه واقع سحري ستصبح مأسورا به وأسيرا له وأنت تقرأ عملا بديعا اسمه “حين يزهر الأقحوان” لابنة الجزائر الروائية الموهوبة سارة رشيدي.
سمها إن شئت رحلة الألم والأمل، وبينهما عالم متناقض من السرد الذي ينتقل بأريحية وإبداع وسحر بين الزخم والتكثيف، والترغيب والترهيب، والريف والمدينة، والشدة والرخاء، والخوف والمغامرة، والدف الأسري والشتات، والاستسلام والنضال، والظلامية والتنوير، وكثير من المتناقضات التي ينطوي عليها السرد في الرواية لغة وبلاغة ورمزا، ليتحقق المبتغى من كل تناقض.. الجمال الأخاذ وحده لا غيره.
قبل أن نخوض في معترك هذا السرد، لا بد أن تتوقف كقارئ عند المنحى الإنسيابي الذي انتهجته سارة رشيدي في روايتها، ذلك أنها لم تتشدد في خطها الروائي، ولم تستقو على قارئها بالأنماط السردية المعقدة ولا التراكيب الملغزة المحيرة، بل على العكس سارت أحداث روايتها تنساب في عذوبة تجعل القارئ يسلم لها طواعية وشوقا ينتظر السطر تلو السطر، والصورة تلو الصورة، والجملة الحوارية تلو الأخرى من دون أن يتوقع ما يحدث أو يخضع ما يتوقع أنه سيحدث للتنميط السائد في عالم السرد، وتلك ما تفردت به صاحبة “تزهر الأقحوان” من إنسيابية وجمال متلازمين على طول الخط الروائي من دون نشاز أو عثرات يمكن أن تنال من تمكنها من أحداث روايتها من ناحية، أو من الإبقاء على قارئها يقظا تواقا من ناحية أخرى، حتى أنك-وذلك حدث معي بالطبع- لا تكاد تطرق باب الرواية ذات المئة وستين صفحة من مطلعها حتى تتعاطها دفعة واحدة في جلسة واحدة.
فهل قصدت سارة رشيدي ذلك من وراء هذا العمل؟
سواء قصدت ذلك أم لم تقصد، فإن دور القارئ أن يقرأ ويستعذب ويغزص في أعماق الرواية التي بين يديه، لا أن يفتش في نوايا الكاتب، وعلى كل فالنتيجة واحدة حيث يمكن أن نتكهن ذلك المقصد من عنوان الرواية البديع المعبر “حين يزهر الأقحوان”.. إنك حتما ستجلس متابعا منتظرا في ود وشوق حتى يزهر أقحوان سارة، فتجدك قد انتهيت من القراءة، ورائحة الحياة تملؤك.. الحياة بخلوها ومرها ويأسها وأملها وخلاصة عطر ستبقى عالقة بك لن تزول أبدا.
لا أحب في هذا المقام أن أتناول عملا كهذا إبداع، من منظور نقدي أو تنظير لقولبة الأحداث في الأطر الفنية للرواية، كما لا أحب أن أعرض قراءتي لتلك التحفة السردية باعتباري روائيا، لكنني سأكتب هنا ما لمسني كقارئ، وهل هناك أصدق مما يكتبه القارئ عن عمل أسره وتأثر به؟!
في البداية، أسجل شهادتي بأن سارة رشيدي استطاعت بمقدرة فذة أن تمحور عملها الروائي حول طفلة بطلة لم تتجاوز في معظم أحداث الرواية سن السابعة، وتمكنت من تحويل الطفلة “جازية” إلى امرأة يافعة -على صغر سنها- تخوض تجربة مريرة قاسية ابتداء من احتراق بيتها وعالمها الصغير وفقدان أبويها، لتلفظ بها النيران إلى عالم الوحدة وما يموج به من يتم وألم وانكسار وصراع من أجل البقاء الذي أصبح مرهونا بالإرادة المستحيلة في عمر هذه الطفلة البائسة.
إن قراءة لشخصية “جازية” بطلة الرواية التي تدور أحداثها في الجزائر، تنبئك عن فهم الروائية لسيكولوجيا الطفل، تلك السيكولوجيا التي لا تتقن إلا عن ثقافة واطلاع على هذا العالم المعقد الغامض غير الخاضع لمنطق الرشد والبلوغ، لكنه تحول بقلم سارة رشيدي إلى منظومة متكاملة من الإدراك والوعي المبكر الذي تلمسه جليا في طفلة صغيرة تتمسك بندبات الجروج التي خلفها حريق مروع أهلك الأسرة وأفنى معالمها إلا من طفلة تحتفظ بقبلة أمها الأخيرة على خدها المحترق، وتجد في عمليات التجميل طمسا لتلك القبلة الأخيرة على الرغم من الألم النفسي الذي تسببت فيه آثار الحروق من معايرة زملائها لها واشمئزاز مدرسة العلوم منها لدرجة أقعدتها من الدراسة التي تعلقت بها وحلمت باستكمالها وفاء لرغبة أمها الراحلة.
تمثل رواية “حين يزهر الأقحوان”، سردًا مترعًا بالمشاعر الفياضة بطلتها طفلة، وفضاؤها فواجع الأقدار، وحبكتها الدرامية هي “المماتنة” التي تتولد عند قليل من البشر العاشق للحياة من انكسار اليأس وانتصار الأمل.
يمكنك أن تلحظ ذلك في عنصر الصدمة التي أجادت سارة رشيدي في تضمينه أحداث روايتها، فبطلتها الطفلة “جازية” كانت تعيش آمنة مطمئنة في أسرة ميسورة الحال وفي أجواء المدينة وما تبوح بها من رفاهية في العيش لطفلة وحيدة مدللة بين أبوين، حتى إذا اشتعلت النيران في البيت الآمن جراء ماس كهربائي، صارت وحيدة ألقت بها أمها وهي في لحظاتها الأخيرة من النافذة إلى الشارع، لتستفيق بعد شهرين من الغيبوبة داخل المستشفى وحيدة يتيمة بلا أنيس إلا من الأخصائية النفسية”رشا” التي تمد لها يد العون الأولى، وتفتح لها أول طاقة أمل في هذا العالم البائس.
ثم من المستشفى، تنتقل “جازية” في تراجيديا مأساوية إلى بيت خالتها التي لا يعلق في ذاكرتها إلا حادث تعنيفها لها وهي صغيرة عندما تسببت في قطع عقدها الثمين إرث جدتها، وفي الريف تجد الطفلة الصغيرة نفسها مكرهة على توديع رغد المدينة الذي ألفته إلى الريف الذي لم تعتد عليه، وتلك صدمة أخرى.
أرادت سارة رشيدي في هذه الرواية أن تجعل من طفلة ملقاة من نافذة البيت المحترق رمزا للحياة التي نلقى إليها من أرحام أمهاتنا، فنقلب في الحياة بين صدمات ومحاولات نهوض وخيبات وانتصارات متكررة، لكنها رحلة على كل حال لا يموت فيها إلا من يستسلم، وكانت “جازية” هي رمز الصمود كما الشعب الجزائري الذي صمد ببسالة مرتين: أمام الاستعمار الفرنسي حتى الاستقلال، وأمام جماعات الظلام والتأسلم الذين استباحوا الدماء في العشرية السوداء بالجزائر الحبيبة.
إن تلك “المماتنة” وهو مصطلح بيئي يعني التكيف مع ظروف البيئة المحيطة، هو ما يمكن استخلاصه من رحلة السرد الشيقة في هذه الرواية، وقد جاء متسقا مع جرعة الأمل التي لا تكف سارة رشيدي عن ترسيخها مبدأ للحياة على طول الخط ما بين نوبات الانكسار المتكررة لبطلة روايتها التي استطاعت بهذا الأمل أن تحيا في الريف وتتماهى مع أسرتها وعالمها الجديدين وتتمرد على محاولات خالتها “صونيا” تعليمها إحدى الحرف اليدوية التي تعتمد عليها الريفيات في كسب أرزاقهن بديلا عن التعليم ذي الكلفة التي لا تحتملها جيوب مزارعين لا يعرفون رغد العيش ولا مساحيق التجميل ولا أضواء المدينة، فإذا هي تتمسك بحلمها حتى تلتحق بالجامعة، وعلى الرغم من مجموعها الذي أهلها للالتحاق بتلطب والهندسة لكنها تفضل دراسة العلوم الاجتماعية، وفاء للأمل الذي عرفته في أول مأساة تراجيديتها في ميتشفى المدينة على يد الأخصائية النفسية رشا.
إن سارة رشيدي في روايتها، تريد أن تفقهنا في عقيدة الحياة والأمل، فتبرز بطلتها “جازية” تتحدى المتنمرين عليها في مدرسة الريف وتتعمد إظهار ندبات الحروق في خدها وذراعها وهي تكتب على سبورة الفصل وترفع وتحيي العلم وتهتف بنشيد بلادها، وهو ما أراه رمزا معبرا عن مقاومة الجزائرين -رغم الندبات والجراح- لكل الظلاميين سواء كانوا مستعمرين فرنسيين أو جماعات الدم والإرهاب.
انتهيت من قراءة هذه الملحمة السردية، ولن أكون مبالغا إذا أقررت أن سارة رشيدي قد حققت مرادها من عنوان روايتها، فإذا كان للأقحوان معنيان من إزهاره يحتمل أحدهما الموت والآخر الحياة، فإن سارة طوعت الأقحوان للحياة والأمل على هوى الجزائريين أهل النضال والمقاومة والقابضين على النور والحياة في شخص “جازية” المنتصرة بالإرادة والعزيمة والحلم المتجدد من رحم الألم والمعاناة، وهو ما اختتمت به سارة رشيدي روايتها بقولها: “هذه أنا.. وتلك قصتي.. الطفلة جازية.. بدأت قصتي فكنت مثل زهرة الأقحوان نذير شؤم وحزن عند بعض الشعوب يُلبسونها قبورهم ليعبروا عن حزنهم وتعاطفهم، وفأل خير وفرح عند شعوب أخرى يزينون بها عرائسهم، فأزهرتُ كما تزهر وريدات الأقحوان، تفوح بعطر خالص يداوي الجروح ويطببه، فلم أترك المجال للحزن ينملكني فأزهرت روحي أقحوانًا خالصًا.. روحك أنت ماذا أزهرت؟”
وفي النهاية، فإن هذا العمل- الذي أدعو كل الباحثين عن الأمل والمتعة والحياة والإلهام والتحدي إلى قرائته- يمثل مادة خصبة وثرية لصناع الدراما والسينما لأن يجعلوا منه عملا جديرا بالمشاهدة، فهو بالفعل كذلك.
وهنا أسجل شهادتي عن هذا الإبداع لأؤكد مجددا أنه “عندما يزهر الأقحوان” يشرق إبداع سارة رشيدي، لنقول لها: هل من مزيد؟.