بقلم -ياسين ازاز…
من الطبيعي جدا ألا تسير الحياة كما نرغَب بها، وأيضا أمر طبيعي أن يكون ثمة تفاوت في الإدراك والفهم والبصيرة، بل وحتى في نصيب من الألم الذي نحظى به. ثمة آلام تتدفق بداخلنا كتدفق السيل العارم المنحدر من أعلى تلة في القرى المهجورة، فيندفع -الألم- بكل ما أوتي بسرعة حتى يصل إلى غايته. هل هناك غايات مُحددة ومدروسة للألم الذي يصيبنا؟ هل الفقد كفيل بأن يجعل منا أناسا سيئوا السمعة؟ فاقدوا الأمل وتعساء؟
إن كل ما حدث وكل ما يحدث لك سببه سوء التقدير وعدم اكتمال أركان الخطة التي اعتمدتها لتيسير حياتك، ولذلك أنت تدفع ثمن تصرفاتك الخاطئة، ويجب أن تتأقلم معها. تلك الومضة من الآلام يجب أن تعرف كيف تديرها حتى لا تصاب بالهلع. حين نفقد الأمل بالحياة يُخلق بداخلنا شيء حدسي، يتفاقم ويتطور حتى يصنع لنفسه مكانا دامسا في ذواتنا، ثم يختبئ بكل هدوء حتى نتأقلم معه.
دعني أقول لك، بكل سخرية ووقاحة، أنت أشبه بطفل في الحضانة لا يدرك حقيقة الوجود. إنك تتناسى فرضية الوجودية والعدمية لشيئان متناقضان ومتلازمان على حدٍ سواء. إن سيلاً من الأمل يفيض من حوض الألم، وومضة الألم التي تمر بك لا يجب أن تنسيك أقباس الآمال التي سُخرتْ لك، لكن ما يجب عليك تذكره بالفعل؛ أن المرء يشقَى بقدر فهمه للحياة، ولهذا السبب الأطفال هم أقل تعرضا للآلام، فهم لا يدركون الحياة بحذافيرها كما يفعل المسنون. هل تمسح لي أن أوجه لك سؤالا: أَوَتعتقد أن ذاك الطفل ذا السبعة أعوام يدرك معنى الوجودية؟ أنت تحسبه يتأمل في كيفية تحرك السحاب وامتزاجها ببعض دون أن تؤثر أي سحابة في حركة السحابة الأخرى. إنه يرمي ببصره نحو السماء لأن النظر نحوها يروق له، أو لأن ضوء القمر -حين يكتمل- يشي إليه بأفكار تدل على جماله -أي على جمال القمر. ولذا، يظل الطفل مقتنعا أن الجَمال وكل ما يَسِّرُ الفؤاد لم يكن يوما مؤلما. يكبر الطفل وهو لا يزال متمسكا بقناعته -أن الجمال والآلام نقيضين- تلك، وأن الآمال غادرته على حين غفلة منه، وتركته هناك؛ على جرف حلم تركته مكبلا يُعاني من الوحدة، يُمني نفسه بالعودة، لكنها غادرته وإلى الأبد. ظل يحدق نحوها بثبات، يراقب الدرب الذي منه قد راحتْ، يستشعرُ بأنامله الناعمتين والمتعرقتين انفلاتها من يده. ما أقسى أن نترك الأشياء ونحن نتمنى احتضانها ولو لمرة … ما أقسى ألا نمتلك أشياءنا الخاصة ونحن على يقين أن الحياة تفقد طعمها دونهم … ما أقسى أن نمتلك الأشياء التي لا نريدها… بل ما أسوأ أن نمتلك الأشياء التي نُحب بعد أن تفقد رونقها.
“يجب أن يكون الشاب، في وقت مبكر، قادرا على تحمل الوحدة. فهي مصدر السعادة وراحة البال.” هكذا يقول الفيلسوف الألماني أرثر شوبنهاور، في تفسيره للوحدة مصدر السعادة.
هذا الطفل أصبح يافعا، وصار يعرف كيف يتأقلم مع وِحدته الطاغية، وصنع من الآلام آمالا، ومن المحن منحا. رغم يقينه أن الوحدة في الألم … ألم مضاعف، عرف كيف يشفي يُخلص نفسه من قيود وهمية قابعة في ذهنه. غالبا ما نبحث -نحن البشر- عن السعادة بأن ننتقل من حزن إلى آخر، بدل من أن نتخلص منه. نحن من يمنح للحزن صلاحية أن يتمادى بداخلنا، غير أن هذا لم يوجد عبثا؛ إنه نوع من الحرص وخشية المواجهة. نعلم علما يقينيا أن الألم والوحدة شيئان يهلكان النفس، ومع ذلك، لا نرغب بها، لكننا أيضا يصعب علينا التخلص منها.
ثمة لحظات نفقد فيها الرغبة بكل شيء، بكل شيء على الإطلاق، هذه الرغبة ما هي سوى تراكمات لشحنات صغيرة كامنة في أعماقنا، نحاول التخلص منها مرارا غير أننا نفشل، ونظل نكرر المحاولة حتى تعلن انقيادها التام وتسلم أمرها بيدها إلينا لنتخلص منها بهدوء. وحين نعتاد على الآلام يصعب التخلص منها، لأن التخلص من الآلام أشبه بمنع النفس من الأشياء التي ترغب بها.
ما يؤلمك … حقا لن ينتهي، لأنك سمعت تلك الكلمة التي كنت تتوق إليها… لكن بعد أن ماتت رغبة الاستماع بداخلك. ما زال البشر لا يدركون أن لكل شيء تاريخ انتهاء، حتى الكلمات تموت حين لم نطلق عنانها في الوقت المناسب.