بقلم: د. أسامة مدنى
عميد كلية الآداب جامعة المنوفية،
و المستشار الإعلامي للجامعة
أتعجب من كم اللّغو الذي يملأ حياتنا ضجيجاً: من كم القيل والقال، الهمز واللمز، الشائعات والمبالغات؛ من كم التّحيّن والتّصّيد، الشطحات والافتراءات، الأكاذيب والتضليل، فتكاد تتلاشى الحقيقة كالسراب. وأصبح يتساوى في ذلك الجميع: شاب أم فتاة، كبير أم صغير، متعلم أم أٌميّ، فصرنا إما صُنّاعاً للتقّول أو مروجين له، “والمجد” لمن امتلك مهارة الاثنين.
لقد غابت ثقافة التحري والتريث، التمهل والتأني، فأضحت صناعة الفتن والتشكيك حرباً نفسية لم تعد باردة، بل قارسة ككرة ثلج متدحرجة، لا يقوى علي مجابهتها إنس أو جن ولا حتى ملائكة. صرنا عبيداً لأتون شبكات “الانفصال” الاجتماعي: نصوّب سهماً هنا ليداوي أحدهم جراحه هناك، نختلق إشاعة مُغرضة بالأمس ليجترها آخر بمرارة اليوم، ننال من سمعة بريء في الصباح فيتلوى المسكين من وقع الوشاية في المساء. لقد بات اختلاق الاتهامات والشائعات والافتراءات تارة واجترارها وتكذيبها وتفنيدها تارة أخرى طقوساً يومية دفاعاً عن النفس والمال والعِرض.
لماذا نتعمد المبالغة والتهويل والتشويه؟ لماذا ومن أين تلك الرغبة الدفينة في النيل من الغير؟ كيف تشكلت ونمت واستفحلت تلك النوايا المتآمرة؟ ألا من سبيل لتقويمها؟ لم لا يتدبرون آيات قرآنية: “ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” (ق 18)؛ “إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ (الشورى 42)؛ “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين” (الحجرات 6)؟ لم لا ليتّعظوا بقول الرسول الكريم: “وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ؟”، وقوله أيضاً: ” كُرِّه لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ ؟” لم لا يتذكرون عظات إنجيلية: “صُنْ لِسَانَكَ عَنِ الشَّرِّ، وَشَفَتَيْكَ عَنِ التَّكَلُّمِ بِالْغِشِّ (المزامير ٣٤: ١٣)؛ “بكلامِك تتبرّر وبكلامِك تُدان” (متى 12: 36)؛ “أمّا لسانُ الأكاذيبِ فيُقطَع” (أمثال 10: 31)؟
فهل نُصبح يوماً نادمين؟ هل نُمسي يوماً مستبصرين؟ أم سنظل على حالنا: مكابرين، غافلين، آثمين؟