بقلم -رانيا عدلي
لا شك أن المكتبات تعج بالكتب والمراجع التاريخية في مختلف الحقب والأزمان، هذه الكتب والمراجع التي غطت الأرفف وحجبت الأفق، ولا تكاد تصل إليها إلا أيدي الطلاب المتخصصين والأكاديميين من طلبة الدراسات العليا وباحثي الماجستير فضلاً عن الدكتوراه، وأحيانًا الشغوفين بدراسة التاريخ وإن لم يكن هذا تخصصهم.
ليس الهدف من التاريخ هو مجرد سرد القصص والتباهي أننا نعرف قصة هذا الزعيم أو ذاك، ونعلم تاريخ هذه البلدة أو تلك؛ فضلاً عن أن يكون الهدف منه مجرد التغني بالأمجاد أو البكاء على الأطلال؛ بل الهدف من التاريخ هو تغيير مفاهيم وقناعات واهتمامات، وغرس قيم ومبادئ وأخلاق.
فـ علم التاريخ هو علم أحوال البشر ومواقفهم وحياتهم على مر العصور والأزمان، فإن لم نتعلم الفراسة والسياسة من سِير من سبقونا، فممن نتعلمها؟!!؛ والسياسة هنا ليس المقصود بها ما هو متعارف عليه من الأمور السياسية المتعلقة بالدول والحكام فحسب، وإنما المقصود بها أيضاً على مستوى الأفراد والجماعات حسن التفكر والتدبر في المواقف السلبية التي وقع فيها من سبقونا فتوجب علينا تجنبها لأننا إذا ما سرنا في نفس الطريق فسوف نحصل على نفس النتيجة، وكذلك تلمس الطرق الإيجابية التي ساروا فيها وأثمرت عزاً ونهضة فنسير فيها مقتفيين أثرهم؛ إن دراسة التاريخ بهذه الطريقة تجعله حياً .. ينبض بالحياة ..، فلا ينبغي أن تكون دراسة التاريخ مجرد دراسة صلبة جامدة لا تغنى ولا تسمن من جوع، فـــ نحن نقرأ لنتفاعل .. نتعلم .. نستفيد ..!!، وليس لمجرد التسلية أو الدراسة الأكاديمية البحثية.
بناء عليه حاولت جاهدة سواء في كتاب “رجال صنعوا التاريخ – التاريخ الأندلسي” أو “قرطبة عروس الأندلس” أن اجعل ما سُطر فيهما مزيجًا من المعرفة والمتعة، حتى تصل إليهما يد النشأ وجيل الشباب والفتيات الذين لا يفتأوا الانتهاء من قراءة رواية إلا ويبدأون في أختها، وكأن الروايات أضحت نوع من السجائر التي يتناولها مدخِّن مفرط في التدخين، إلا أن الروايات تختلف عن السجائر في أن الأولى لا يخلو النادر منها من فائدة، وذلك إذا ما كانت الرواية تحمل هدفًا وفكرة ورسالة، وسطرت بلغة سليمة سلسة وعذبة..
لذلك كان هدفي من كلا الكتابين هو تبسيط صورة التاريخ الذي ارتبط في أذهان الكثيرين بالتواريخ والسآمة من حفظها مما أبعد جيلنا جيل الشباب والفتيات عن قراءة التاريخ بُعد المشرق والمغرب من جهة، وتسليط الضوء على رجال كان لهم دور فعال في صناعة هذا التاريخ، وبصمة واضحة في ازدهار هذه الحضارة، وكشف الستار عن نماذج يحق لكل مسلم أن يقتدي بها قبل أن يفخر بكونها جزء من نسيج هذه الحضارة، وذلك عن طريق ذكر ما لهم وما عليهم، باعتبار أنهم بشر وليسوا ملائكة من جهة أخرى..!!
فـ كان كتاب “قرطبة عروس الأندلس” عبارة عن رحلة عبر الزمن نسير فيها داخل أزقة قرطبة ودروبها، نتجول في شوارعها المرصوفة والمضاءة على بُعد أميال في زمن كان يرضخ فيه الغرب في ظلمات بعضها فوق بعض، في هذه الرحلة نتأمل منازل قرطبة ومساجدها وأسواقها التي كان كلً منها يُعتبر بمثابة مؤسسة مستقلة لنشر شعاع العلم والمعرفة والثقافة في ربوع الأندلس، هذا الشعاع الذي تجاوز الأندلس ليعبر الأراضي والفيافي إلى العالم الأوربي الذي كان يتخبط آنذاك في ظلمات الجهل والتخلف؛ كما نعيش في هذه الرحلة مع فارس المناظرات “ابن حزم الأندلسي”، وحاكم الحكام “المنذر البلوطي”، ونغوص في أعماق علم الطب مع رائد علم الجراحة “أبو القاسم الزهراوي”، ونكير ونحلق مع رائد التجربة الأولى في الطيران “عباس بن فرناس” في سماء الكون مغردين ومحاولين اكتشاف كل جديد، كما نعيش قصة الصداقة في حياة عالمنا ابن فرناس، وقصة الصداقة والعشق في حياة شاعرنا ابن زيدون، نعيش خلال هذه الرحلة الأندلسية مع جملة من أعلام الأندلس الذين أضاءوا بعلومهم وفنونهم وآدابهم سماء قرطبة والأندلس خاصة، والعالم الإسلامي عامة، نتعرف على حياتهم، نشأتهم، رحلاتهم في طلب العلم، الصعوبات والتحديات التي تعرضوا لها، كيف تغلبوا على هذه الصعوبات والتحديات واستطاعوا أن يجعلوا من تراثهم العملي والشخصي تاريخيًا يتداوله الناس حتى يومنا هذا، نتعرف على كيفية جعلهم مدينة قرطبة عاصمة استطاعت أن تنافس في عظمتها الحضارية عامة والعلمية خاصة عظمة المدن الإسلامية الكبرى في المشرق مثل: بغداد، والإسكندرية، والقيروان، هذا الازدهار الحضاري والعلمي الذي توجها لتصبح عروسًا للأندلس.
أما في كتاب “رجال صنعوا التاريخ – التاريخ الأندلسي” فقد تم تسليط الضوء على جملة من رجال أندلسيين تميزوا بنفس الملكات والقدرات التي دعموها وأظهروها بالسير في طريق من سبقهم من قادة وقدوات، فــ طبقوا مبادئ وقوانين الفروسية بحذافيرها، بمعنى أنهم أخذوا بأسباب العتاد والعدة ثم توكلوا على ربهم جل وعلا؛ حكام أندلسيون نهضوا بالأندلس وجعلوها بلغتنا المعاصرة في مصاف الدول المتقدمة؛ بل في قمة هذه الدول؛ بل هي صاحبة مشروع تصدير التقدم والرقي لمن حولها من دول العالم آنذاك، وفي هذا محاولة للرجوع إلى الأصول والمنابع والمعين الأساسي المتمثل في تعاليم ديننا ثم تراثنا الإسلامي الخالد، لأننا كما قال الفاروق: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله”، بناء على ذلك ذكر في هذا الكتاب سير هؤلاء القادة أو القدوات أو الرجال الذين تمكنوا بسواعدهم وعقولهم وقلوبهم صناعة هذا التاريخ ممثلاً في التاريخ الأندلسي، وسطر أسمائهم فيه بحروف من نور، ومن خلال هذا العرض لسيرهم والمواقف التي تعرضوا لها في حياتهم نستخلص ونستعرض الدروس والعبر التي حوتها هذه السير والمواقف بين طياتها سواء كانت هذه الدروس والعبر إيجابية فنتبعها ونسير على إثرها، أو سلبية فنتفادها ونبتعد عنها لعلمنا مسبقاً بالنتيجة التي يسفر عنها مسلك هذا الطريق أو ذاك.
لذلك في اطار هذين الكتابين سيلاحظ القارئ مدى التشابه بين ما حدث في الماضي وما يحدث في الحاضر سواء على مستوى الأفراد أو الدول، سنتعرف كيف تعامل بعض الأشخاص مع المواقف بطريقة إيجابية ومن ثَمَّ أوصلتهم إلى بر الأمان، وكيف تعامل آخرون معها بطريقة سلبية ومن ثَمَّ أودت بهم إلى التهلكة، وهنا سيأتي الدور علينا لنتعلم ونستفيد ونعرف معالم الطريق، فليكن هذا هدفنا من قراءة التاريخ، وإلا لن تكون قراءته إلا مجرد بكاء على اطلال طوتها الأيام، وتغني بأمجاد عفى عليها الزمان، وبالتالي لن تصبح قراءته ودراسته إلا اهداراً لأوقاتنا وضياعاً لأعمارنا.