مقطع من رواية قنابل الثقوب السوداء بعنوان (للأسف _عالم الفضيلة مزيف )
الجزء الخامس والخمسون
للأسف ..عالم الفضيلة مزيف..
خرج جاك ملثمًا بسيارته الطائرةً ليتجوّل شوارع واشنطن ، وهو يعلم أنّ أهل واشنطن لا يختلفون في شيء عن باقي أهل الأرض ، فالبشر كلّهم سواء .
فالإنسان هو الإنسان ، لا دخل للأرض بمعالجة نفسه الآثمة ، ويؤثر فيه الوعيد والترهيب قبل الوعد والنعيم .
وبفضل القاضي الذي في سحابة أورط خشع الناس وآمنوا واستسلموا للحقّ والعدل والسلام .
خرج إلى الناس ليتسمّع دقّات قلوبهم الرفيفة ، ويرى أخلاقهم العظيمة ، خرج ليرى لأوّل مرّة في تاريخ البشريّة عالم البشر ينتهجون أخلاق الملائكة .
ولقد حدّث نفسه قائلاً..
يعيش العالم الآن والسيف على رقابهم من السماء وللأسف يظنّ نفسه أتقى الأتقياء ، فمن يتّق تحت سلطان السيف يفجرْ عند كسره .
كلّ آمن الآن ، آمن أنّ لهذا الكون إله ، كلّ الديانات آمنت الآن حتى الملحدين آمنوا أنّ الكون له إله سيدفع عنهم شرّ هذا الذي يتربص بهم في السماء .
وقطع بسيارته مسافات شاسعة جدًا لا يدري أين هو بالضبط ، فرأى تعانقًا في العوالي ، فتعانقت مآذن المساجد وقباب الكنائس ، وركض كلّ منهما بجانب الآخر يحتمي في ظلّه ويأوي على فرشه .
وهو في الهواء نظر إلى الأرض فوجد ملحمة أخرى فهبط بسيارته ليسمع ويرى ويلتذّ .
فوجد المال يتناثر على رؤوس الفقراء ، والسجون تُفتح لإطلاق الأبرياء ، والملاجيء فرغت من اللقطاء .
وأخيرًا وجد الناسَ ينزعون أقنعتهم ويطرحونها أرضًا ، وجد رجلاً يطرح قناعاً واحدًا ، وآخر يرمي عشرًا ، بل رأى رجلاً ظلّ يطرح أقنعةً تجاوزت المئة .
وظهرت وجوههم الحقيقية فواروها عن الأنظار حتى لا تُفزع الشياطين لحين أن يتمكن منها نور التوبة فتضيء .
وقد كانوا بالأمس يتكلمون بلغة واحدة ولا يُفهم من كلامهم شيئًا ، واليوم رغم أنّهم يتكلمون متلعثمين بكلّ اللغات إلّا أنّ كلامهم يفهمه الغبيّ قبل الذكيّ ، وذاك لأنّ كلامهم لأوّل مرّة يخرج من قلوبهم تحت تأثير آية السماء .
ذهب جاك إلى سيارته مبتسمًا فوجد حمائم السلام اتخذتها أيكةً ، فاستقلّها مرة أخرى وطار بها فلم تخشَ .
وظلّ طائرًا ولم يكن وحده فحسب بل طارت معه حمائم السلام ، محملة برسائل الحبّ والعدل والسلام إلى كلّ كائن حيّ .
فتح حاسوبه وهو في قمة السعادة فسمع الإعلاميّ يقول..
وعزم أغنياء العالم على إنشاء جمعية لانقاذ البشريّة من الجوع والعراء .
وكذلك إنشاء مركز الاتحاد العالمىّ للسلام والمواطنة السلميّة .
و …
وما زال الإعلاميّ يذكر الانشاءات المختلفة لكن الغبطة تملّكت من جاك فغيبته عن الدنيا فلم يسمع .
هبط للمرّة الثانية في إحدى الجزر فبلغ نهرًا وجد فيه عجبًا ..
حاولتْ أحد الظباء الرواء والمرعى ، فمدّت عنقها لتشرب فما استطاعت ، فالمسافة بينها وبين منبع الماء طويلة .
ظلت تحاول وتحاول فلم تستطع .
فجأة ، خرج أحد التماسيح يحمل ماءً كثيرًا ، ففتح فمه فمدّت عنقها بداخله وشربتْ وارتوتْ ، فعاد التمساح إلى المياه ومضتْ الظبية في أمان .
سار الفهد يسير بجانب الغزال يلاعبه ، وحفرَ الذئب بئر الماء للأبل لتشرب ، واختفى فحيح الأفاعى كما اختفى عواء الذئاب .
غاضتْ البراكين الثائرة وانعطفتْ لتغور وتغور في أعماق الأرض السابعة هاربة من رحمة البشر ، وهدأتْ الأعاصير حتى تحوّلتْ إلى نسمات من الهواء الرقيق المستنشق .
فاستحضر موعظة في نفسه قائلاً..
فلما تراحموا فيما بينهم وأقاموا العدل رحمتهم الطبيعة .
وأخيرًا سأل نفسه أين كنت يا ثقب منذ زمن ؟ ما أجفاك يا حقير! ليتك تظلّ تقبع هناك تلاعبنا ولا تأكلنا ، تخدشنا ولا تقطعنا ، حتى نظلّ نحيا فى ظل ناموسك الأكبر ..يا ليت يا ليت .
وبعد معاينة كلّ ذلك فكّر وتدبّر فرأى أنّ الملائكة ما هي ملائكة على الحقيقة ، وإنّما خادعت الثقب ليرحمهم ، فهل سيخادعهم ؟.
ثمّ قال لو تحطم هذا الرابض في السماء لتذئّب الناس وتوحشوا من أجل استرداد ما أعطوه سابقًا .
وعندئذٍ يكون العواء في الجحور قبل القصور ، وفي رنين الفخار قبل رنين الذهب .ثمّ عاود جاك مُحدثًا نفسه..
أخشى ما أخشى أن أقتل الثقب فيقتلون الناس أنفسهم ، فحسنة الأمس سيئة الغدِّ ، وفضيلة الأمس رذيلة الغدِّ ، تتبدّل كلّ المفاهيم عند زوال سلطان السماء..وتُهدم الكنائس التي على مشارف المساجد ، وتُشنُّ الحروب الإسلامية تحت راية القراءن ، كما تُشنّ الحروب الصليبيّة تحت راية الصليب ، إذا فسد أئمتهم وتطرّف مواليهم .
وعاد يصرف عن نفسه هذا الحديث المرّ وقال لنعيش اللحظة الآنية ..ثمّ تمطّى مبتسمًا ببسط كلتا يديه مردّدًا لنعيش اللحظة الآنية .
بقلمي / ابراهيم امين مؤمن