جزء من قصة ” غروب الشمس”

جزء من قصة ” غروب الشمس”

من مجموعتي القصصية ” مروج الأماني

 

غروب الشمس

 

صفحات الوجد، هل تسمحين لي أن أتسكع في ينابيعك الغريبة؟

نصطبغ حقا بالغرابة ، حين نفكر بالتضحية في سبيل من لا يضحي لأجلنا، مخالفين  لطبيعتنا البشرية، الأنانية المنغرسة فينا.

لحظات وجد قاسية، يتجرعها، يحاكي نسيما يرتجف بين أغصان الزهور، ويتهادى في استسلام بين أوراقها.

– نسيم، أنت يا من تقف خلف ذكرياتك، تتأملها بوله وتحاول معايشتها من جديد، كحاضر يلازم وجدانك كل لحظة، ويحرمك من آن أنت غائب عنه تماما بروحك،  وتحيا فيه ككتلة مادية خاوية من الأحاسيس…. توقّف عن التفكير في الماضي، عش لحظاتك الحاضرة بكل دقائقها  وثوانيها، فما مضى قد مضى، نحن أبناء اليوم، والماضي عدم لا وجود له.

–  عدم؟ هذا غير صحيح، الماضي هو حاضري ومستقبلي، بل وعالمي الجميل الذي أحيا فيه.

كان يحاور نفسه في تيهان المشدوه ، غائر البصر  في السماء ، غائر التفكير، يحاول أن يستجمع صورة واقعية عن ” ماضيه الجميل” ليحياها مرة أخرى، لكن هيهات فالواقع هو الواقع والواقع يفرض نفسه ، وفي صراعه مع الواقع  لا يمكن له أن ينسى وردته الجميلة “عبير” فلتمر الأيام، ولتتغير الأحوال  والبلدان، ف “عبير” تسكن  الوجدان، نسمة سحرية هي من نسمات الفرح والبسمات، فمهما غابت غاب معها كل فرح و بسمة.

ترجَّل من سيارته ، وخطى خطوات مرتبكة أتعبت الأرض تحت قدميه.

  • آه…

أهو أنين أرض آلمها حنينه إلى خطاها الناعمة منذ رحيلها ذات شقاء؟ أم هو نشيج وردة رجّها سقوط قطرات مالحة بللتها، وجعلتها مثقلة، ستنطوي على غصنها في عناق الوداع ، لتهوي على الأرض؟

  • انتبه يا نسيم لحزنك، لا تدعه يلبسك إلى حد أن تؤذي الآخرين….. عن غير قصد.
  • و لكن عبير آذتني عن قصد.
  • هي الذكرى يا نسيم،  سكنتك حتى الأعماق، وستقذف بك إلى عالم الجنون.
  • وحزني عليها لن يعيدها، فهي من اختارت الرحيل. لكنك أنت وحدك من تقهر راحتي أيها الغبي الضعيف، فكم تضعفنا بقراراتك المفاجئة لتفرض علينا ما لا نرضى ، بل وتكلّ من عزائمنا لتسقينا كؤوس  العلقم بكل استرخاء.

يا فؤاد، أصغ إلي، انسها، وأطع أمري ولو لمرة واحدة، فلكم أطعتك.

 وتتابعت نظراته بعد خطواته، ليبصر المرفأ، حيث ركبت ” عبير” السفينة وغادرت فجأة وبغير سبب،  وكم تفجعنا القرارات الأحادية التي لا ترحم.

  • لِمَ تقفُ هنا ؟ أنتَ يا مَنْ عاهدت نفسك على البدء من جديد حياة بغير “عبير”…، أنت… مَنْ أقسمتَ على مسح الذكرى بالحاضر، تُراك اليوم تعيد نسج خيوطها من جديد، وحياكة حكاية بدأت عند المرفأ وانتهت فيه.

 نسيم، الفتى “الهندي” كما كان يلقبه سكان الحي لسمرته الجميلة، بالرغم من مرتبته العالية في البحرية بمرفأ عنابة، كان متواضعا لين الجانب، تنتشر روحه المرحة بسمات على القلوب، وأول من كان يهواه بقوة هو أمه لدرجة جعلتها  تدعوه”مومو العين” لبره بها ووالده، حيث كان يطيعهما  طاعة عمياء، فطوعت له دعواتهما الصالحة ورضاهما عنه كل عسير.

فما أن تخرج من المدرسة العسكرية للبحرية، حتى منَّ الله عليه بوظيفة  طيبة ، فاستلم مسؤولية العائلة بعد تقاعد أبيه.

 الوظيفة، هي حلم أترابه من خريجي الجامعات وغيرهم، فهي زورق نجاة للسابحين  في بحر الحياة ، وهي ضوء أخضر ، يلوح بإمكانية قطع أشواط من الأماني بكل أمان.

وبأمان كان يفكر في بعض الأماني، فلم يهتد إلى قرار في كل ما كان  يشغله، فارتدى ملابس الغوص، وبدأ في ممارسة هوايته بالبحث عن جواهر يكتنزها قاع البحر.

 كم كانت الرحلة جميلة….. رحلة الغوص، وكم كان قاع البحر مثيرا، وبقدر ما هو غامض فالمغامرة كانت  ممتعة، ورحلة البحث عن الجواهر كانت ترسم تقاسيم أمنية خافتة، بدأت تنبع  في الأفق مع الصباح.

 ظل يحبس نفسه لساعات  في حضن ماء مظلم، كان يصطاد ظلمته بمصباحه اليدوي، لكنه في ذلك اليوم لم يعثر على جوهرة واحدة، لكأن قاع البحر كان يداعبه ويدعوه إلى السطح رويدا رويدا.

فتخطَّى عتبة الماء ليستلقي على رمال رحيمة غير لامعة، بسبب غياب ضياء الشمس،  ولكن شيئا ما كان يتحفها ببعض اللمعان، ويرسل بأنوار وحدها اللآلئ من تدرك كنهها. 

 ففي الجانب المقابل للمرفأ، أبصر الشاب الأسمر فتاة في مقتبل العمر، لم يرها من قبل، كانت واقفة بجانب سيارة فخمة، وهي تنظر حولها، يبدو عليها قلق ظاهر.

وما هي إلا لحظات حتى رأى رجلا  كث الشوارب، يمسح الأفق بقامته الطويلة، يقبل نحوها ملوحا بيديه:

  • ها قد عدت.

جاء الرجل حاملا بين يديه سلة صغيرة بها بعض قطع حلوى وقهوة منعشة، أنعشت أمنيات بقلب الفتى حين  استلبه بريق جوهرة الشاطئ، فلم يستطع أن يرفع بصره عنها.

لم يغادر البحار الماهر المكان، بل بقي يراقب ما حوله من مكتنزات تحت السماء، لا يضاهيها جمال جواهر قاع البحر.

جميلة ميهوبي.

 

Related posts

Leave a Comment