بقلم ”هاشم محمود حسن ”
– كاتب روائي،إرتري الجنسية.
– خريج جامعه السودان للعلوم والتكنولوجيا ، كليه الدراسات التجاريه ، 2001 .
– صدرت له روايات : ( الطريق الى آدال ) ، ( تقوربا ) ، ( عطر البارود ) .
– مجموعات قصصية: ( شتاء أسمرا ) ، ( الانتحار على أنغام الموسيقى ) .
_ سعدية .. سعدية يا سعدية يا سعدية .
_ توقفي عن المناداة يا أمي هي لن تسمعك .. هي في ملكوت آخر .
_ اذهبي و احضريها لتساعدني في تجهيز الطعام ، الوقت يجري مسرعاً ، ولم يبق سوى ساعتين على أذان المغرب.
_ هيا اذهبي .. والدك على وشك القدوم ومعه الضيوف .
_ من الضيوف يا أمي ؟
_ توقفي عن الحديث ، لا وقت للشرح يا بنتي ؟
_ سعدية سعدية .
لا تجيب الفتاة فتضطر اختها هدى أن تربت على كتفها لعلها تدرك فتفيق من غفلتها .
٠ ما الأمر ؟
٠ لا وقت اسرعي .. ألا تسمعين كل هذه المناداة ؟!
٠ خير .. ماذا يجري ؟
٠ ألم تسمعي كل هذا النداء ؟ الوقت يمر ، والوالدة لم تنته من إعداد الطعام ، وعليك أن تساعديها .
٠ ألم تعلمي أن هناك أشخاصا سيأتون مع والدك ؟
٠ لا اعلم ، على أية حال هيا بنا .
٠ نعم يا أمي ماذا تريدين ؟
٠ كل ذلك ولم تسمعي ! أنت يا بنتي مش صايمه زينا ! وفيه أكل وفيه مائده لازم تجهز ! وفيه ضيوف لازم نجهز لهم كل حاجه قبل الوصول .
٠ حاضر
تنفذ سعدية ما تطلبه والدتها على أكمل وجه لكن امها تشعر بالضيق منها ، تريد أن تصب عليها غضبها ، فهي حاضرة و لكن في الوقت نفسه غائبه و مشتتة الذهن ، هي معها طوال الوقت رغم ذلك فروحها غائبه ومحلقه ، وكأنها من أهل السماء وليست من أهل الأرض .
” الفتاة الشاردة ”
سعدية فتاة رقيقة جداً على قدر عال من الجمال ، مطيعة للجميع ، لا تنطق كلمة لا ابدا ، الجميع يحبونها لكن يشتعلون غضبا من شرودها ، لا تعرف هل هي معك تسمعك ام أنها في عالم آخر ، وتلك هي مشكلتها الكبرى ، لا تؤذي أحدا ، ولا يمكن لوالديها أن يعاقباها على صمتها ، لكن هناك شئ يشغلها لكن ما هو .. الله اعلم .
دائما ما تكون حديث والديها عند النوم ، فهل هي بخير ؟ هل تعاني من أزمة نفسية ولا احد يعلم ، ولكن كيف و هي أمام أعينهم طوال الوقت!
تقترح اختها الكبرى عرضها على طبيب نفسي ، لكن والديها يرفضان بشدة ذلك ، خوفاً من أن تطالها سمعة الجنون ، فلا يزال هناك قدر عال من الجهل ، ولا زالت ثقافة البعض أن من يذهب لطبيب نفسي شخص مجنون .
لا تبالي سعدية بشيء مما يدور حولها ، تتمنى نفسها بليلة الزفاف ، تنتظر لحظة ارتداء الفستان الابيض ، فلا تنام ، فهي تعلم بقرب زيجتها رغم أنها لم توافق على أحد ممن تقدموا لخطبتها حتى الآن ، لكن جاء دورها في الزواج فهي الاخت الوسطى ، وقد تزوجت الكبرى .
تقف طوال ساعات الليل تطل من شرفة منزلها ، تنظر للسماء ، تحادث القمر و النجوم ، تتحدث إلي شخص مجهول لا يراه أحد سواها ، تتمتم ببعض العبارات و التي لا يفهمها أحد ، وعندما تستيقظ اختها الصغيرة هدى في منتصف الليل بسبب العطش تجدها تحادث نفسها ، فتحاول أن تفهم مع من تتحدث ، ومع من تنظر إلى السماء ، لكن لا أحد .
يبدو أنها كانت تتحدث إلي الله تنشده رغباتها وتتمنى تنفيذها ، هي تثق ثقة مطلقة ، لكن أكثر كلمة كانت ترددها : أنا على على العهد يا الله وعلى كتابك وعلى سنة نبيك يا الله .
” عهد مع الله ”
لا أحد يفهم ما تقصد تحديداً ، لكنها كلما خلت إلي نفسها ذكرت (( أنا على العهد يا الله )) ، وكأنها عاهدت الله على شيء لم تبح به لأحد ، وأن هناك عهداً سريا مبرما لا يعلمه غيرها .
٠ هيا تفضلوا .. هيا تفضل يا عم أحمد ، تفضل يا حج إبراهيم ، أهلا يا محمد ، تفضل يا ابني .
يدخل الزائرون الغرفة المخصصة لاستقبال الضيوف ، ليجدوا مائده كبيرة في انتظارهم .
يردد محمد : ماشاء الله، لقد شققنا عليكم كثيرا ، لماذا كل هذه التكلفة يا عمي ؟ هذا كثير جداً .
_ لا شيء كثير على الاحباب .
(( بصله المحب خروف )) ، هكذا يتدخل الحاج إبراهيم .
يضحك الجميع .. اللهم اجعله في ميزانك .
يتحدث الرجال عن فضل الصيام على المسلم وعن أثاره على النفس وتهذيبها وإراحة المعدة وأجهزة الجسم.
الله أكبر الله أكبر.
أذَّن المؤذن لصلاة المغرب، يتناول الرجال التمر، ثم يقومون للصلاة جماعة داخل المنزل، لينتهوا منها ليبدأوا تناول الإفطار.
«اللهم اطعم من أطعمنا واسقِ من سقانا.. أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة ورزقكم الله فيمن عنده».
آميييين.
هكذا ردد الزائرون بعد تناول الطعام.
استأذن واحد وراء الآخر لغسل يديه بعد تناول الطعام، يفسح لهم والد سعدية الطريق ليتأكد من عدم وجود أحد داخل دورة المياه.
رجل وراء الآخر، حتى جاء محمد الذي يلمح سعدية بطرف عينيه تعد المشروبات الساخنة في المطبخ والتي يقع في مواجهة دورة المياه، فيحمد الله في نفسه على ما هداه إليه.
يضحك الرجال ويتحدثون عن أحوال البلاد، لكن يقطع الحاج إبراهيم:
أكلنا وشربنا الشاي وناقشنا أحوال العالم .. يبقى أحوالنا.
تفضل يا حاج إبراهيم.
يا ابو سعدية تعرفني جيدًا، وتثق فيما أقدم عليه.
طبعًا يا حاج أنت مثل والدي.
إذًا لا داعي للمقدمات.
نريد ابنتك سعدية لابننا محمد.
هل الفتاة فاقدة العقل؟
لم يكن ذلك الطلب مفاجئًا بالنسبة لوالد سعدية؛ فهو شعر منذ ثلاثة أيام بأن هذا هو المقصد من طلب القدوم للمنزل والإفطار معه، فالحاج إبراهيم في صلاة الجمعة قد لمَّح له بالأمر لكن ليس بشكل واضح.
تكلم معه في العموم عن الستر وأهمية تزويج الفتيات، فالعمر يجري مسرعًا، ولا بد من الاطمئنان عليهم، وتركهم في أيدٍ أمينة، وأن هناك شبابًا يتمنون مصاهرته.
لله الأمر من قبل ومن بعد.
هذا شرف كبير يا حاج، أنا أعلم محمد راجل وابن رجال، لكن الأمر بيد سعدية وليس بيدي، فتعرف يا حاج إلا الزواج، فلا بد من موافقة العروس.
طبعًا.
هيا ناد عليها خذ رأيها.
لماذا العجلة انتظر للجمعة القادمة حتى تكون قد صلت صلاة استخارة، ويكون محمد قد استخار الله.
يجيب محمد مسرعًا:
استخرت الله يا عمي وعزمت