دكتور/ أحمد العطار.
مدرس مساعد بكلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر والمبعوث السابق للأزهر بدولة إيطاليا
نعم كما قرأت عزيزي القاريء، فالعنوان ليس به خطأ، هو عنوان مقصود لم تُخطأه عيناك، نعم كورونا الخير. وهل في الكورونا خير؟
هل هناك من يعتقد بأنّ في هذا الوباء خير؟ نعم، أنا من هؤلاء.
الكل ينظر إلى ما سبّبه هذا الوباء الجديد من خسائر على كل الأصعدة، وأهمها بالطبع الخسائر البشرية ما بين وفيات تضرب معظم دول العالم وفي القلب منها إيطاليا المعشوقة، أو إصابات تركت حزناً على الوجوه وقلقاً في النفوس أن تودّع حبيباً في القريب.
ثم تمتد أبصار السياسيين شاخصة إلى الخسائر الاقتصادية ما بين خسائر ضربت ولا تزال القطاع الصناعي والتجاري والسياحي، حيث في إيطاليا على سبيل المثال وصلت خسائرها في قطاع السياحة فقط إلى إلغاء ما يزيد عن 90% من حجوزات الصيف القادم، مع توقف كامل في المصانع والشركات (باستثناء تلك التي تُصنّع المستلزمات والأجهزة الطبية لمواجهة هذا الوباء). إذاً فالخسائر أكثر من أن تُعد أو تُحصى في سطور قليلة.
لكن ومع كل ذلك، لا زلت أنظر إلى ماتبقى في الكوب من قطرات قليلة، قطرات تُمثّل جانب الخير في تلك الكورونا. ولما لا تُوصف بالخير وهي التي وحّدت البشرية مرة ثانية بعد وحدتها الأولى عام 1918 ضد وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي أودى بحياة ما يتراوح بين 40 إلى 50 مليون شخص (الأرقام طبقاً لتقرير صادر عن bbc بتاريخ 5 نوفمبر 2018)، توحّدت البشرية مرة أخرى في مشهد غير مسبوق بعد أن فرقتهم حروب عالمية وأخرى إقليمية وصراعات من جانب القوي للاستحواذ على موارد الضعيف، فجاءت الكوورنا بأيامها الثقيلة دون استئذان لترتب الأوضاع من جديد، وتُجبر الجميع على الوحدة في مواجهة شر مستطير يصيب الجميع بلا هوادة، علّهم ينجحون في إيجاد دواء يُدخل سروراً على أهل مُصاب أو على الأقل ينجحون في إيقاف هذا الكابوس المزعج ولو قليلا لالتقاط الأنفاس.
ومن جهتي أتساءل، لما لا يوُصف هذا الفيروس الصغير بالخير وهو الذي لا يعرف تمييزاً عنصرياً في معاملته مع البشر، فساوى بين الرئيس والمرؤوس، بين الغني والفقير، بين الأبيض والأسود، بين القوي والضعيف، بين الرجل والمرأة، بين الصغير والكبير. أجبر الجميع على التزام البيوت، قضى هذا الفيروس ولو مؤقتاً على كل مظاهر الفرقة والتعصب والتحزب، نجح فيما سقطت فيه أعتى الحضارات التي تتباهى ليل نهار بهيمنتها وكبريائها، قضى ولو مؤقتاً على أمراض النفوس التي أصابت الغالبية العظمى من بني الإنسان.
لما لا يُوصف هذا الفيروس بالخير وهو الذي مهّد أمامنا الطريق كي نتعرف على صفات الله من جديد، وأنّه هو الملاذ والملجأ في كل وقت ولا سيما أوقات البلاء والمحن، أوقات أُغلقت فيها أبواب المساجد للضرورة المفروضة قسراً حتى نقترب إلى الله في كل وقت وليس فقط في أوقات المساجد المُحددة.
لما لا يوُصف هذا الوباء بالخير، وهو الذي أعطى الطبيعة فرصة- ربما لن تتكرر مرة أخرى في المستقبل القريب- لالتقاط الأنفاس، فمن حق الطبيعة علينا أيضاً أن نُوفر لها قسطاً من الراحة، بعد موجات متتالية من التدخل الموحش في شؤونها الداخلية (بلاد العالم الثالث نموذجاً) أو حتى من التنظيم المُمل والمرهق من جانب حضارات العالم المتقدم. إنّ الطبيعة في العالم اليوم سعيدة، نستطيع أن نرى سعادتها من خلال هذه المشاهد الراقية والصور الصافية لشواطيء البحار وللغابات الخضراء وللآثار التي تقف شامخة وكأن مهندسوها قد انتهوا من تشييدها منذ قليل، إنّ الطبيعة اليوم يانعة ترسل إلينا عطراً فوّاحاّ يستطيع حتى المزكوم أن يُميّزه بسهولة، وهي إذ تتقدم إلينا اليوم بأسمى آيات الشكر لأنها حصلت أخيراً على إعفاء مؤقت من خدمة بني البشر.
لما لا يوصف هذا الصغير بالخير وهو الذي أعاد الحياة إلى شرايين الأُسرة من جديد، فأعاد للأسرة صورتها النمطية التي احتفظت بها قروناً طويلة من أب وأم وأولاد يجلسون جميعاً في مكان واحد يتنولون طعاماً واحداً، يتحدثون حديثاً واحداً ويتعرف كل منهم من جديد على الآخر، بعد أن كانوا يسرقون من الهاتف دقائق معدودة لتواصل مُزيف لا يُسمن ولا يُغني من جوع.
لما لا يُوصف هذا الفيروس بالخير وهو الذي دفعنا دفعاً إلى الله الخالق حتى يُعلمنا أنّ هذا الفيروس هو جند من جنوده (وما يعلم جنود ربك إلّا هو- المدثر 31)، أنزله على البشرية لحكمة لا يعلمها إلّا هو وسيرفعها وقتما يشاء تبارك وتعالى- وأن عسى أن يكون قريباً- بعد أن نكون قد استوعبنا الدرس والرسالة جيداً وأن نعلم علم اليقين أن خلاص البشرية ليس في ماديتها القاسية التي طغت وانتشرت حتى في بلاد الإسلام، ولكن خلاصها بالعودة إلى الله الخالق.ألم أخبركم أنها كورونا الخير؟ بلى.
للحديث بقية،
رجاءا التزموا بيتكم
كما قال رسولنا الكريم صل الله عليه وسلم