الخــــــلــود وكتـــــــــاب عن المـــــــوت

بقلم : للأستاذ الدكتور حسن عبد العال .

متابعة عبده البربري 

حين أراد أبليس من ادم عليه السلام أن يعصى ربه أغواه بالخلود وقال له فيما يحكيه القرآن الكريم ” هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ” وتحت اغراء الخلود وعدم الموت والفناء أكل أبو البشر من الشجرة التى كان ربنا قد حذره من الأكل منها ” ولا تقربا هذه الشجرة ” .

وكان المعنى الذى استقر فى الذهن من قصة آدم عليه السلام هى رغبة الإنسان الخفية فى البقاء وفى الخلود ، وكراهية الموت ، وظل تفسير المفسرين لخطئية ادم يدور حول التجربة العملية التى أراد الله بها أن يخرج أدم عليه السلام بالدرس الذى وعاه أدم وبنوه من بعده ومضمونه ” إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ” .ولم تشغل قدامى المفسرين قضية الخلود فى هذه الحياة ، وكان تركيزهم والفقهاء على حب لقاء الله ، وكيف تكون الدنيا سجن للمؤمن يحول دون الإسراع بهذا اللقاء بعد الموت .

ومنذ أمد قريب قرأت عن كتاب الدكتور ” إرنست بيكر ” الأمريكى الذى أحرز شهادة الدكتوراة فى الانثروبولوجيا ، والكتاب بعنوان ” إنكار الموت ” وهو كتاب فاز بجائزة بوليتزر ، وصار واحدا من أكبر الأعمال الفكرية أثرا خلال القرن العشرين ، لأنه كما قيل عنه أحدث هزة فى مجالى علم النفس والأنثروبولوجيا إضافة إلى تقديمه أطروحات فلسفية عميقة لاتزال تتمتع بأثرها إلى اليوم ، وفى هذا الكتاب ” إنكار الموت ” ربما وجدت تفسيرا لقضية حرص ادم عليه السلام على الخلود والبقاء الأبدى ومعناه .

يطرح كتاب ” إنكار الموت ” فكرتين أساسيتين : 
١ — الإنسان كائن فريد من حيث أنه الحيوان الوحيد القادر على تصور نفسه ، والتفكير فيها بشكل مجرد . لا تجلس الكلاب هنا وهناك قلقة على حياتها المهنية ، ولا تفكر القطط فى الأخطاء التى ارتكبتها فى الماضى ، ولا تدور بين القرود مجادلات حول احتمالات المستقبل .
وأما نحن البشر فإننا ننعم بالقدرة على تخيل أنفسنا فى حالات افتراضية ، وعلى تأمل الماضى والمستقبل وتخيل واقع آخر ووضع آخر يمكن أن تكون الأشياء مختلفة فيه ، ويقول بيكر إننا كلنا نتيجة هذه القدرة العقلية الفريدة ندرك حتمية موتنا عن نقطة معينة ، وعلى تخيل واقع لا نكون فيه . وبسبب هذا الإدراك لدينا ما يطلق عليه بيكر ” رعب الموت ” وهو قلق وجودى عميق يستبطن كل ما نفكر فيه وكل ما نفعله .

٢– وفكرة بيكر الثانية مفادها أن لنا ” نفسين ” النفس الأولى هى النفس الجسدية ، النفس التى تأكل وتنام وتشخر وتتغوط ، والنفس الثانية فهى نفسنا المتخيلة أو المكونة من أفكار ، إنها هويتنا ، أو كيف نرى أنفسنا . 
يبنى بيكر حجته على النحو التالى : يدرك كل منا عند مستوى ما ، أن نفسه الجسدية سوف تموت آخر الأمر ، وهذا يعنى أن الموت حتمى وهذه الحتمية تخيفنا كثيرا ، من هنا وحتى نعوض عن خوفنا من الخسارة المحتومة لأنفسنا الجسدية ، نحاول إنشاء ” نفس متخيلة” قادرة على العيش كامنة فى مشاريع الخلود إلى الأبد ، هذا هو السبب الذى يجعل الناس مهتمين بوضع أسمائهم على المبانى والتماثيل وعلى الكتب أيضا ، أملا أن يدوم تأثيرها فى الناس .
ويطلق بيكر على هذا ” مشروعنا للخلود ” الذى يسمح أنفسنا المتخيلة بالعيش زمنا طويلا بعد نقطة موتنا الجسدى .

إن الدين والسياسة والفن والرياضة والاختراعات التكنولوجية كلها نتيجة مشاريع البشر للخلود ، وينبهنا بيكر إلى أن مشاريع الخلود هذه هى قيمنا ، أنها ما يقيس المعنى والقيمة فى حياتنا ، وعندما تفشل قيمنا فإننا نفشل أيضا . وفى نهاية المطاف توصل بيكر توصل بيكر إلى إدراك جديد مفاجىء وهو على فراش الموت : المشكلة كامنة فى مشاريع الخلود لدى الناس وليست فى الحلول التى يصلون إليها فبدلا من محاولة تنفيذ تلك المشاريع عن طريق القوة أو فرض نفوسهم المتخيلة على العالم ، فإن على الناس أن يضعوا نفوسهم المتخيلة موضع التساؤل ، وأن يحاولوا أن يتقبلوا أنهم سيموتون ، ويطلق بيكر على هذا اسم ” الترياق المر “‘ويحاول تقبله بنفسه وهو يواجه موته الوشيك .

صحيح أن الموت أمر سىء لكنه محتوم ، من هنا فإن علينا ألا نحاول تجنب هذا الإدراك ، بل نتصالح معه إلى أقصى درجة ممكنة ، فعندما تصير حقيقة موتنا مريحة لنا ( وهو جذر خوفنا كله وهو القلق الخفى الكامن الذى يحرك كل ما فى حياتنا من طموحات تافهة ) نصير قادرين على اختيار قيمنا بحرية أكبر من غير أن يفيدنا سعينا غير المنطقي خلف الخلود . 
وأخيراً نقول للسيد بيكر أن قرآننا حسم القضية منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة فلنقرأ قول الله تعالى ” أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة ” ولنقرا بتمعن قوله تعالى ” كل نفس ذأئقة الموت” وقوله لنبيه صلى الله علية ” وما كان لبشر من قبلك الخلد ” صدق الله العظيم .

 

 

 

Related posts

Leave a Comment