السودان
حوار أجرته الكاتبة السودانية : رانيا بخارى
مع الدكتور عاطف الحاج سعيد …
اكبر اساءة للكتابة الابداعية اختزالها فى النقل الفتوغرافى
تفقد الكتابة مشروعيتها عندما تصبح بخور يحرقه الكاتب فى معابد السلطان
سفاح صفاء من عاصف حدث له رمزيته الكبيرة بالنسة لى
(عاطف الحاج سعيد، يتوزع انتمائي بين مدينة المناقل وقرية شرّفت الخوالدة بولاية الجزيرة، درست اللغة الفرنسية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا وحصلت على درجة الدكتوراه في اللغويات التطبيقية منها، وأعد حالياً رسالة دكتوراه أخرى في اللغويات المقارِنة بفرنسا. أعمل منذ العام 2007 وإلى الآن أستاذاً للغة الفرنسية بكلية اللغات بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا. اشتغلت لسنوات طويلة بالترجمة من اللغة الفرنسية إلى العربية وبالبحث العلمي ونشرت عددا من البحوث في المجلات المتخصصة. ترجمت كتاب “صراعات الثروة في السودان” لمؤلفه زقمنت أوستروفسكي وشارك في ترجمته الدكتور أحمد حامد محمد ونشر الكتاب في العام 2015، ترجمت كذلك مسرحية “كوخ الرجل” للكاتب السنغالي أحمد شيخ نداو ونشرت الترجمة في مجلة “إفريقيا قارتنا” التي تصدرها وزارة الاستعلامات المصرية العدد الثاني الذي صدر في فبراير 2013، ترجمت عدد كبير من المقالات لصالح مجلات وصحف عربية. سينشر لي قريباً كتاب أكاديمي بعنوان (اللغة العربية للناطقين بغيرها في ضوء الإطار الأوروبي المرجعي المشترك للغات) بالاشتراك مع الدكتور محمد داود محمد.
[ad id=”1177″]
عملت في الفترة من 2006 إلى 2011 محرراً ومترجماً ومعداً للبرامج في القسم الأوروبي بالإذاعة السودانية (أم درمان) وحصلت في العام 2011 على جائزة التميز الإذاعي عن برنامج (السودان بين الأمس واليوم) الذي كنت أعده وأقدمه. اتجهت في السنوات الأخيرة للكتابة النقدية والتعليق الثقافي في الصحف والمواقع الالكترونية).
من أين يطل علينا نص (عاصفٌ يا بحر)، من الواقع أم من الخيال؟ وكم من الوقت استغرقت كتابته؟ وكيف وصل إلى الفوز؟ وهل هنالك نصوص قبله أم انه الأول؟
هو تفاعل بين الواقع والخيال، أنها معالجة جمالية للواقع تستخدم الخيال الفني الحكائي. كتبت هذه الرواية، والحق يقال، في ظروف مواتية وداعمة، كتبتها هكذا مرةً واحدةً دون توقف في أقل من شهرين في العام 2015 وكنت حينها أقيم في مدينة جبلية صغيرة تقع في شرق فرنسا مع الحدود السويسرية تدعى (بيزانسون). بعد أن أكملتها حفظتها في حاسوبي إلى أن قرأت مصادفةً إعلاناً عن فتح باب التقديم لجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي أظنه كان على موقع (البعيد) فتقدمت بنصي. كتبت في شبابي الباكر جداً رواية تحكي عن تجربة حقيقية يمكن أن نسميها (نضالية) خضتها برفقة صديقي الدكتور على محمد سعيد الأكاديمي والناقد المسرحي المعروف وزملاء آخرين وتبعتها كثير من الأحداث المثيرة فقمت بالتوثيق لها في رواية، لكن ضاع النص ولم أعد أذكر منه شيئاً.
[ad id=”1177″]
هل توقعت الفوز؟ وماذا يعنى لك ؟
نص (عاصفٌ يا بحر) هو الأول لي تقريباً كما أشرت سابقاً لذا من الطبيعي أن تراودني الكثير من الشكوك والهواجس حول قيمته الفنية وتماسك بناؤه. رغم ذلك توقعت بدرجة كبيرة أن احصل على الشهادة التقديرية للجائزة. يعني لي الفوز بهذه الجائزة الكثير بالطبع. أولاً لأن الجائزة تحمل اسم أيقونة الرواية العربية الروائي الراحل الطيب صالح الذي أحبه كثيراً ولم أتوقف يوماً عن قراءته، ربما قرأت (موسم الهجرة للشمال) و(ضوء البيت) عشرات المرات دون كلل وملل، واتخذت ترجمة رواية (موسم الهجرة للشمال) للغة الفرنسية التي قام بها فادي نون وعبد الوهاب ميديب متناً أجري عليه التحليل التقابلي للسلاسل المرجعية والإحالات في اللغتين العربية والفرنسية وهو موضوع رسالة الدكتوراه الثانية لي والتي أعدها حالياً في جامعة فرانش كومتيه بفرنسا. ثانياً، لأن الجهة التي تنظم الجائزة وتشرف عليها هي مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان وهو مؤسسة أهلية محايدة لها استقلاليتها ولا تخضع لأية ضغوط الأمر الذي ينعكس حتماً على المصداقية الكبيرة للجائزة. ثالثاً لأن الجائزة اختصرت لي الكثير من الوقت الذي كنت سأحتاجه للتعريف بنفسي وبمشروعي الروائي، يمكن الإدعاء الآن بأن (عاصفٌ يا بحر) أصبحت معروفة بدرجة ما في الأوساط الأدبية في السودان ويمثل ذلك مكسباً ثميناً. أخيراً، لأن مركز عبد الكريم ميرغني يلتزم بطبع ونشر الرواية الفائزة وبذا تكون قد حلت إشكالية النشر وهي إشكالية كارثية تماماً ويدرك الناشطون في الوسط الثقافي السوداني مدى فداحتها ومأساويتها.
ما هي المرجعية التي اعتمدت عليها في حياكة (عاصفٌ يا بحر)؟
هي مرجعيات كثيرة بالطبع. مرجعيتي الفنية التي اتكأت عليها في نسج هذا النص هي مرجعية شكلتها قراءات كثيرة وممتدة على امتداد سنوات طويلة للرواية وتطورها كجنس أدبي حديث نسبياً وقراءات معمقة في النقد الأدبي. مرجعيات الثيمات التي تناولتها الرواية تجد جذورها في الواقع وتفاعلي معه: الهجرة غير الشرعية والاتجار في البشر والقانونين المتعلقة بالإجهاض وحماية الأطفال مجهولي الأبوين والشمولية والإقصاء والصراعات الدينية والمذهبية التي تضرب العالم بشدة، إذاً مرجعية هذه الثيمات هي أزمات العالم المعاصر والتي تكاد أن تعصف به.
لم تُلقي الرواية إضاءة كافية على الشخصيات؟
أعتقد أنني رسمت الشخصيات بما يلبي الحاجة الفنية للنص. لم أرغب مطلقاً في كتابة نص مترهل سردياً ومحشو بالتفاصيل.. سعيت بكل قوة للاقتصاد في السرد، كان يمكن أن أقول الكثير عن شخصيات (مامادو حميدي) و(رافاييل) وغيرهما من الشخصيات باستخدام الاسترجاع الفني لكن هل كان ذلك ضرورياً؟ لا أعتقد ذلك… كل الذي عرفناه عن هذين الشخصيتين هو بالضبط وفقاً لما أرى ما يحتاجه البناء الفني للرواية وليصبح العنف والصراع الديني على ظهر المركب الذي يقل المهاجرين مفهوماً ومبرراً ودالاً.
هل سِفاح (صفاء) هو رمز للشرعية المفقودة؟
بكل تأكيد أن حمل (صفاء) سفاحاً من عاصف نتيجة اللقاء الحميم الذي تم بينهما في حمامات القاعة الرئاسية بعد انتهاء الرئيس من إلقاء خطاب الوثبة هو حدث له رمزيته الكبيرة بالنسبة لي، لكن للقارئ مطلق الحرية في أن يفسر هذا الحدث كما يشاء، لن أحصر القارئ الكريم في تفسيراتي الشخصية لنص الرواية ذلك لأنه نص مفتوح في آخر الأمر على تأويلات وتفسيرات متباينة وربما متناحرة.
أنت كسارد لم تستطيع أن تشيد مسافة فاصلة بينك وبين النص لذا كنت حاضراً في متن النص؟
لا أتفق معك. يجب أن نفرق بين الروائي والراوي والمروي والمروي له. أنا كروائي ـــ كاتب أفوض الراوي ليخبر بالحكاية إنابة عني (صوت ثاني) وأصل لغاياتي الفنية عبره ولكن ليس كل ما يقوله الراوي يعبر عني أو عن أفكاري ورؤيتي للعالم. إن النص الروائي هو في المقام الأول عالم متخيل منتج في سياق لغوي ومن غير المجدي الخلط فيه بين هذه المكونات.
هل ينقل الكاتب عالمه أم يتحاور معه اختلافا واتفاقا ليعيد بناء عالم فيه ما هو مشترك مع الآخرين؟
أهم ما يميز الرواية هو تعدد الأصوات (polyphony)، حتى عندما ينقل الروائي عالمه سنكتشف وسريعاً أنه عالم متعدد وليس أحادي وتصطرع فيه كثير من النزعات والاتجاهات والتيارات. ستتقاطع عوالم الكاتب حتماً مع عوالم الآخر. أريد أن أضيف: إن أكبر إساءة يمكن أن نوجهها للكتابة الإبداعية هو اختزالها في مسألة النقل الفوتوغرافي للواقع. يتحاور الكاتب مع واقعه بكل تأكيد، وهو حوار فني يتم في مستويات أعلى لا مكان فيها للتفاصيل المملة، إنها أشبه بعملية التقاط لكل ما هو دال وعميق، ينتج عن هذا الحوار مقاربات جمالية للواقع تتخذ شكلاً فنياً وأدبياً ما.
[ad id=”1177″]
النص السوداني نص معذب و مثقل بالجراح ولد قسرياً من أرواح متعبة ما سبب ذلك؟
ذلك بسبب تعقيد الحالة السودانية. نجد أن تعقيد الأمة السودانية التي تتقاطع بداخلها المكونات الزنجية والعربية أنتج أكبر أزمة عرفتها الثقافة السودانية وهي أزمة الهوية التي لا تزال تسيطر وتنتج الأزمات والحروب. كما أن السودان لم ينعم بأي استقرار حقيقي منذ الاستقلال إلى الآن، فقد شهد انقلابات عسكرية وحروب أهلية وتمرد وظلم اجتماعي واضطهاد وقمع. أنعكس كل ذلك في الثيمات التي تناولتها الرواية السودانية خصوصاً في العقود الثلاث الأخيرة فنجد أن ثيمات الحرب والديكتاتورية والفساد والعنصرية والهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر هي ثيمات متكررة خصوصاً في روايات بركة ساكن وأحمد المك وخالد عويس. حقاً إن النص السوداني مثقل بالجراح والأنين.
تطور الشكل في فن الرواية هل عبّر عن الحالة المجتمعية الراهنة؟
حتماً أن تطور الأشكال الفنية في كل الأجناس الأدبية لا يتم فوقياً بمعزل عن التطورات الاجتماعية والاقتصادية. يتطور الشكل عندما يصبح الشكل القديم عائقاً للتعبير عن النزعات الجديدة والاحتياجات الجمالية الناشئة وعاجز عن استيعابها، لذا يتم التمرد عليه فتنتج أشكال جديدة تستطيع أن تعبر عن الحالة الراهنة وتستشرف الاحتياجات المستقبلة. إن الرواية هي جنس أدبي حديث نسبياً قياساً بالأجناس الأدبية الأخرى لذا ستتطور أشكالها وتقنياتها دون مقاومة عندما يقتضي الحال بعكس الأجناس الأدبية الراسخة مثل الشعر والمسرح التي كثيراً ما تعاند وتقاوم التطور في أشكالها.
متى تفقد الكتابة شرعيتها؟
كثيرة هي الحالات التي تفقد فيها الكتابة مشروعيتها: عندما يتكلس الكاتب في الصيغ الجاهزة و الثيمات المكررة ويصيبه رهاب التجريب عندها تفقد الكتابة مشروعيتها، عندما تصبح الكتابة بخور يحرقه الكاتب في معابد السلطان لينال فتات موائده…تصبح الكتابة بلا مشروعية، عندما يظن الطبيب أو المهندس أو رجل الأعمال أو رئيس النادي الرياضي أن الكتابة طريق سهل للوجاهة الاجتماعية والمجد فيلهث خلفها عندها تصبح الكتابة منزوعة الشرعية … الحالات كثيرة جداً!
[ad id=”1177″]