بقلم الخبير الباحث في الاستراتيجيات المعاصرة
آب الشيخ محمد فاضل
رئيس مجلس إدارة مجلة شؤون موريتانية.
يناير2025
يبدأ الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني ولاية رئاسية جديدة تمتد لخمس سنوات (2024 – 2029)، في ظل تحديات جسيمة على المستويين الداخلي والخارجي، فعلى سبيل المثال يشهد الجوار الإقليمي لموريتانيا اضطرام أزمات أمنية وجيوسياسية معقدة فضلًا عن التحديات في بنية النظام الدولي وتداعيات ذلك على الوضع الإقليمي والداخلي لموريتانيا.
ومن هنا باتت الولاية الثانية للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني تواجه رهانات صعبة المنال، ويتطلب كسبها جهدا مضاعفا في التصور والتخطيط والتنفيذ والصيانة؛
وانطلاقا من ذلك قرر الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني طرح رؤية متكاملة لمواجهة تلك التحديات والرهانات وتقوم هذه الرؤية في الأساس على تعزيز الاستقرار الداخلي والدفع بوترة التنمية الوطنية الشاملة، إلى جانب ارساء حضور دولي وإقليمي مؤثر
ولم تهمل رؤية الرئيس مواجهة التحديات الناشئة واستثمار الفرص المتاحة؛ لتعزيز مرتكزات ثلاث، تتمثل في: التنمية المستدامة، والأمن الإقليمي، والسلم الدولي، ولا شك في أن رؤية الرئيس محمد ولد الغزواني في مأموريته الثانية تأتي استكمالًا لما بدأه في مأموريته الأولى
وجدير بالذكر هنا أن هذه الرؤية قد تجلت في برنامجه الانتخابي للولاية الثانية، وكذلك في كلماته في المحافل الدولية والإقليمية، التي من بينها خطابه أثناء تسلم موريتانيا الرئاسة الدورية للاتحاد الإفريقي في فبراير 2024، وخطاب التنصيب للولاية الثانية في أغسطس 2024، فضلًا عن خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2024، بما عكس رؤية الرئيس لكل القضايا الوطنية والإقليمية والدولية، والتي عبرت عن مزيج متكامل من التوجهات الاستراتيجية على الصعيدين الدولي والعالمي وعلى صعيد الرؤية الوطنية التي ابرزت الأولويات الاستراتيجية التي تهدف لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي في موريتانيا، وتجلت تلك الأولويات في حرص الرئيس على الالتزام ببناء دولة القانون وترسيخ مبادئ الحكم الرشيد، والتركيز على قضايا التنمية، والأمن، واصلاح التعليم، وتحسين الخدمات الصحية، وتطوير البنية التحتية الاجتماعية، مستهدفا بذلك الفئات الأكثر هشاشة لضمان شمولية التنمية وتقليص الفجوات الاقتصادية والاجتماعية، مما يعكس التزام الدولة بتكريس العدالة الاجتماعية.
وفي الاطار ذاته أهتمت الرؤية بضرورة تحسين الاقتصاد الموريتاني؛ إذ تسعى موريتانيا لتصبح لاعبًا رئيسًا في أسواق الطاقة، خاصة أنها تمتلك الموارد الطبيعية المتنوعة والمواقع الاستراتيجية المتميزة المؤهلة لذلك، كما تمتلك خط إنتاج مستقبلي متكامل للطاقة، بدءا بالغاز الطبيعي من ميناء انجاكو والهيدروجين الأخضر من ميناء تانيت واليورانيوم في ولاية تيرس زمور وتجدر الإشارة هنا إلى أن مظاهر الاهتمام بهذا الدور اتضحت بصورة كبيرة في المأمورية الاولي للرئيس ، من خلال التأسيس لإرساء مشاريع مستدامة كبرى مثل الهيدروجين الأخضر الذي يمثل اليوم محورًا استراتيجيًا في رؤيتنا للطاقة النظيفة، وفي سياق ذلك يعد مشروع ميناء تانيت للطاقة النظيفة ومنطقة تيرس الغنية باليورانيوم وولاية اترارزه حاضنة الغاز والبترول نماذج بارزة تُبرز ثقل موريتانيا في تطوير حلول مستدامة للطاقة، وهذا ما يبرر حرص الرئيس على استكمال ما بدأه من مشاريع للطاقة النظيفة مع التوسع في مشروعات جديدة أخرى لا تقل أهمية، ويشار هنا إلى أن النموذج الموريتاني بات نموذجًا يُحتذى به في دمج الطاقة النظيفة في الاستراتيجيات الوطنية.
وفى هذا السياق ركزت الرؤية على الجانب الإنساني حيث أولت أهمية لبناء مؤسسات قوية تحترم مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وشددت على محاربة الفساد المالي والإداري وضمان استقلالية القضاء، من خلال تبني الحوار والتشاور كأسلوب دائم في إدارة الشأن العام، مما يُسهم في خلق مناخ سياسي أكثر شمولية واستقرارًا.
وعلى الصعيد الإقليمي؛ هدفت الرؤية إلى تطوير علاقات موريتانيا مع دول الجوار، وعلى كافة الأصعدة، ففي علاقاتها مع الجزائر على سبيل المثال طور البلدان شراكة استراتيجية، شملت التعاون في
مجالات النقل والتجارة والأمن. ويُعتبر مشروع الطريق البري الرابط بين مدينتي تيندوف والزويرات نموذجًا للتكامل الاقتصادي بين البلدين؛ مما يسهم في تعزيز التبادل التجاري وفتح آفاق جديدة للاستثمار كما ركزت موريتانيا والجزائر على التنسيق الأمني لمواجهة التحديات المشتركة، خصوصًا في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
وفى السياق ذاته، أولت رؤية الغزواني اهتمام خاص بإفريقيا من خلال نهج شامل يقوم على الحوار المشترك، بالتركيز على تعزيز المصالحة الوطنية واحترام القانون الدولي، وتهدف هذه الرؤية إلى تحقيق استقرار دائم في القارة الأفريقية بما يعزز الأمن الإقليمي والدولي ويحد من تأثيرات التدخلات الخارجية على النزاعات الداخلية، ومن خلال تولى موريتانيا رئاسة الاتحاد الإفريقي، سعت إلى تقديم نموذج قيادي يعزز التكامل الإقليمي ويطرح حلولًا مبتكرة للتحديات التي تواجه القارة، ولقد حظيت أزمة منطقة الساحل والصحراء بأهميتها؛ حيث هدفت الرؤية إلى تعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الساحل، خاصة في ظل ما تفرزه المنطقة من تحديات أمنية في إفريقيا، عبر نهج دبلوماسي يقوم على الحوار والشراكة الإقليمية، ودعم الجهود الدولية لإرساء الأمن في المنطقة، مع التأكيد على ضرورة تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية كجزء أساسي من استراتيجية مواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة.
وجدير بالذكر أن رؤية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لم تكن رؤية سياسية فقط بل شملت أيضا الجانب الاقتصادي من خلال إعادة تشكيل دور إفريقيا في الاقتصاد العالمي، والاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة للقارة، وتطوير بنية تحتية متكاملة تعزز من قدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي والمنافسة عالميًا، فضلًا عن رؤيته لضرورة تعزيز الحوكمة الاقتصادية في الدول الإفريقية، بهدف جذب الاستثمارات وتحفيز النمو، مع أهمية تطوير القطاعات الإنتاجية، مثل الزراعة والصناعات التحويلية، لتقليل الاعتماد على الواردات وتحقيق نمو مستدام، ويشار هنا إلى ما تضمنته الرؤية من دعوة صريحة لمعالجة أزمة الديون التي تعاني منها عديد الدول الإفريقية، من خلال تبني سياسات أكثر إنصافًا على المستوى الدولي، ولا شك في أن هذا التوجه يعكس إيمان موريتانيا بضرورة تحقيق تحول اقتصادي يتيح للقارة الإفريقية تجاوز تحدياتها التقليدية وتعزيز مكانتها في النظام العالمي.
وفي ظل تصاعد حدة الازمات العربية لعبت موريتانيا دورًا بارزًا في محاولة حل النزاعات الإقليمية، بما في ذلك الأزمة الليبية، حيث ركزت الجهود الموريتانية على تحقيق مصالحة وطنية بعيدًا عن التدخلات الخارجية، بما يضمن وحدة ليبيا واستقرارها، وهو النهج ذاته الذي طُبق في معالجة الأزمة السودانية، حيث دعت موريتانيا إلى حلول سلمية تعزز الاستقرار وتحد من التداعيات الإنسانية للأزمة.
وفي ذات التوجه حظيت القضية الفلسطينية باهتمام خاص لدي الرئيس الموريتاني باعتبارها القضية المركزية للدولة الموريتانية، حيث أكدت الرؤية على الموقف الثابت في دعم حقوق الشعب الفلسطيني وإدانة الانتهاكات الإسرائيلية. وفي سوريا نادت موريتانيا بضرورة احترام سيادة الدولة السورية ودعمها حقوق الشعب السوري مع ضمان وحدة سوريا وسيادتها، وهو الموقف الذي تكرر في الحالة اليمنية؛ حيث دعت موريتانيا إلى تسوية سياسية شاملة تُراعي المصالح الوطنية للشعب اليمني، مع التأكيد على أهمية معالجة الأزمة الإنسانية وتعزيز الاستقرار. هذا الموقف يعكس سياسة موريتانيا القائمة على احترام سيادة الدول ودعم الحوار كسبيل لحل النزاعات.
وختامًا يمكننا القول أن رؤية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للولاية الثانية تعد خارطة الطريق التي سترسم ملامح السياسات التي ستتبناها موريتانيا على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي، فضلًا عن كونها استكمالا لجهود الدولة في الولاية الأولي للرئيس الغزواني، وتجدر بنا الإشارة إلى أن الرؤية جمعت بين الإصلاحات الداخلية والدور الإقليمي الفاعل، من خلال التركيز على التنمية المستدامة وتعزيز الحكم الرشيد، عبر تحقيق قفزة نوعية في مسار موريتانيا التنموي، مع التأكيد على تحويل إمكاناتها الطبيعية إلى فرص اقتصادية استثمارية ملموسة، عبر بناء شراكات استراتيجية مع عديد الدول ـ وعلى رأسها الصين ـ في كافة المجالات بما يضمن تحقيق التنمية المستدامة في إفريقيا والمنطقة العربية، وبهذه الرؤية الشاملة، تبدو موريتانيا في ظل الولاية الثانية مهيأة لتحقيق تحول جذري في مكانتها الإقليمية والدولية، بما يتيح لها أن تكون نموذجًا للتنمية الشاملة والتعاون الإقليمي الفاعل.