بقلم -جابر عتيق
(أنا بذرة لن تختفي، ضع كثيراً من التراب فوق رأسي، واغمرني بالظلام، سأنبتُ في الزنزانة، وأقتلعك، وأثمر نوراً يحرق كل فلاسفة القضبان).
بهذا المقطع استهل الأستاذ هاشم محمود روايته، عزيز تلك الشخصية التي شخصنة السجن والزنزانة، ثمن الصدق في وطن لا يعرف قيمة الإنسان وعزيز يعرف أنه سيدفع ثمناً غالياً لمجرد أنه رفض أن يغير مبادئه، ويحرف معنى الإخلاص للوطن ويحول الإخلاص للحاكم، عرف منذ البداية أنه سيدفع الثمن “ثمن وفق ما يحدده أولئك الذين منحوه حرية الاختيار بين الحديد والنار”.
تتسلسل الزنازين، وتتابع أيامها وما يعانيه السجين من بيئة قذرة ومعاملة سيئة وتعذيب لا يجعله يفرق بين الأيام، الألم ممنهج والإهانة تستمر، كل هذا يصب في اتجاه واحد، إهانة المعتقل لانتزاع اعترافات في قضايا لم يفعلها لإبقائه بعيداً عن الساحة العامة التي يؤثر فيها، فخوف النظام لا من أفكار المعتقل، بل من مدى تأثيره في الجماهير، فكلما زاد تأثيره وعلاقاته الداخلية والخارجية نظرت إليه السلطات الدكتاتورية بنظرة ريبة وشك، ووضعته موضع الاتهام حتى تحين الفرصة الملائمة لتلقي به في السجن لتغيبه عن مجال تأثيره الفعال.
إن حب الوطن الذي يشير إليه الكاتب لا ينطوي على السيطرة الجبرية فحب الوطن هو انتماء يفوق لغة القوة، ويتعداها لمجال أرحب لا يعرفه العسكر الذين سيطروا على البلاد في غفلة من أهلها بدباباتهم وسطوتم، وفرضوا عليهم الخضوع والذلة، ومن يرون أنه لا يبجل سلطتهم يجب أن يموت أو يختفي، فكل شيء لدى العسكر له طريق واحد، الرأي واحد والقرار واحد والحاكم واحد، ويجب أن يتبعه الجميع ويطيعوه، فهو العارف العليم القوي الأمين.
عندما يصبح الحكم مأوى لمجموعة معينة تضطهد الفئات الأخرى؛ وهذه المجموعة مؤمنة بأن تلك الفئات لا بد أن تطالب بحقوقها طال الزمان أو قصر، وبما أن بطل الرواية مسلم نشط له تلاميذ وأتباع، ويملك هو ووالده مؤسسة تعليم ديني يتضح اضطهاد السلطات الأريتيرية للمسلمين لا لكرههم، بل خوفاً منهم، وتتجلى الإهانة بتهميشهم والنظر إليهم على أنهم فئة دونية يجب أن تخضع وتستسلم للسلطات، وإلا تسلط عليها ألوان العذاب.
تتناول الرواية عناصر مهمة في السجن سواء للسجانين أو المساجين، فالسجان بلا قلب، ولم يكتسب هذه الصفة بين عشية وضحاها، لكنه تبلد مع الوقت، وأصبح سادياً لا يبالي بصراخ وألم الضحايا، هدفه فقط أن يحقق غايته في تلفيق التهم وانتزاع الاعترافات عن طريق التعذيب، لكي يحيل المتهم لقبر آخر يقضي فيه بقية عمره، أو يعلق على أثره على حبل مشنقة.
أما السجين فهو الحلقة الأضعف وصبره لا ينبعث من قوته البدنية، بل من إرادته التي تقاوم الاستسلام، أوضح الكاتب الجوانب النفسية القاسية التي يعانيها السجناء والطرق البسيطة التي يحاولون من خلالها التغلب على قهر السجان وعزلة الزنزانة، الخيال يلعب دوراً هاماً في تلك الوحدة والإيمان كذلك، إلا أن كثافة التعذيب وقسوته تكسر أحيانا إرادة بعض المساجين فيستسلمون لقدرهم، وبعضهم لا يتحمل ويرحل عن الدنيا، دون أن تعقد له محاكمة أو أن يقف أمام قاضٍ.
قضية اضطهاد المسلمين في أريتيريا وبعض القوميات الأخرى من قبل السلطات، على عكس التعايش الذي يحدث في المجتمع، والفتن التي تثور بين الطوائف والأديان أغلبها إن لم تكن كلها من صنع أجهزة الأمن لكي تحكموا سيطرتهم على المجتمع.
لا زلت ألوم الأستاذ هاشم محمود على بخله، ففي الرواية الكثير الذي لم يقله، ولو فعل لأعطى للرواية ألقاً أكثر، لكنها رواية جميلة تحكي الثورة والسجن والاضطهاد تقع في 237 صفحة من القطع الصغير أنصح بقراءتها
بقلم / جابر عتيق