اعداد -محمود أبو مسلم
التبيان في تدبر القرآن” سورة العلق نموذجا”الحلقة السادسة عشر بكتبها
ا.د/ كارم السيد غنيم
أستاذ بكلية العلوم جامعة الأزهر
عضو اتحاد كُتّـاب مصر
التدبر في الآية الخامسة: “عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5}”:
خلاصة التفاسير للآية الخامسة:
“عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ” يعني علَّم الله الإنسان الخطّ بالقلم، ولم يكن يعلمه، مع أشياء غير ذلك، مما علمه ولم يكن يعلمه.. علمه إدراك الشيء بحقيقته.. علمه من العلوم التي لم يكن ليعرفها لولا الله سبحانه وتعالى.
وقد أدمج سبحانه وتعالى التنبيه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة ونيل الرتب الفخيمة ولولاه لم يقم دين ولم يصلح عيش. ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره سبحانه دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به.
وقد حصلتْ من ذكر التعليم بالقلم والتعليم الأعم إشارة إلى ما يتلقاه الإنسان من التعاليم سواء كان بالدرس، أم بمطالعة الكتب، وأن تحصيل العلوم يعتمد أموراً ثلاثة: أحدها الأخذ عن الغير بالمراجعة، والمطالعة، وطريقهما الكتابة وقراءة الكتب، فإن بالكتابة أمكن للأمم تدوين آراء علماء البشر ونقلها إلى الأقطار النائية وفي الأجيال الجائية. والثاني التلقي من الأفواه بالدرس والإِملاء. والثالث ما تنقدح به العقول من المستنبطات والمخترعات. وهذان داخلان تحت قوله تعالى “علم الإنسان ما لم يعلم”.
وقيل: المراد بالإِنسان هنا الجنس، أي جنس الإنسان عموما، كما هو ظاهر السياق. فيكون ارتقاء في الإِعلام بما قدره الله تعالى من تعليم الإِنسان بتعميم التعليم بعد تخصيص التعليم بالقلم.
وقيل “الإنسان” هنا آدم عليه السلام. علمه أسماء كل شيء؛ بحسب ما جاء به القرآن في قوله تعالى: “وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)”[سورة البقرة]، فلم يبق شيء إلا وعلم سبحانه آدم اسمه بكل لغة، وذكره آدم للملائكة كما علمه. وبذلك ظهر فضله، وتبين قدره، وثبتت نبوته، وقامت حُجة اللّه على الملائكة وحجته، وامتثلت الملائكة الأمر لما رأت من شرف الحال، ورأت من جلال القدرة، وسمعت من عظيم الأمر. ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد سلف، وتناقلوه قوما عن قوم.
وقيل: “الإنسان” هنا إدريس عليه السلام لأنه أول من خط بالقلم.
وقيل “الإنسان” هنا الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم؛ ودليل ذلك قول الله تعالى: “وعلمك ما لم تكن تعلم (113)”[سورة النساء]، وعلى هذا فالمراد بـ “علمك” المستقبل؛ فإن هذا من أوائل ما نزل. في الآية مزيد تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه، والإشعار بأنه تعالى يعلمه عليه الصلاة والسلام من العلوم ما لا يحيط به العقول ما لا يخفى. وفي ذلك اطمئنان لنفس النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدم معرفته الكتابة لا يحول دون قراءته لأن الله علّم الإنسان ما لم يعلم، فالذي علّم القراءة لأصحاب المعرفة بالكتابة قادر على أن يعلمك القراءة دون سبق معرفة بالكتابة… وفي الآية إشارة إلى الاهتمام بعلم الكتابة وبأن الله يريد أن يُكتَب للنبي صلى الله عليه وسلم ما ينزل عليه من القرآن، فمن أجل ذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتّاباً للوحي من مبدأ بعثته.
وقيل: العلم هنا عام، لقول الله تعالى: “والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا (78)”[سورة النحل].
وقفات تدبّر للآية “علم الإنسان ما لم يعلم”:
(1) الإنسان نسل آدم، وآدم مُعلَّم من الله:
علم الله سابق لكل علم وأعلى من كل علم: “… وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)”[سورة يوسف]. ومن علمه سبحانه علم الإنسان كل شيء ينفعه، وكان من قبل يجهله، لأنه لابد للتعليم من معلم، وهذا المعلم هو الله سبحانه… يقول الله تعالى في كتابه المجيد: “وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)… قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)”[سورة البقرة]، ولما علَّمه الأسماءَ (أي أسماء الأشياء) جعله مدركا لها بحقيقتها. ولكي يدرك ويعي الإنسان هذا العلم، وهبه الله العقل. يقول الراغب الأصفهاني (ت 502 هـ) (في “المفردات في غريب القرآن”): العقل يقال للقوَّة المتهيِّئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوَّة عقل. وفي الآية الأخيرة إشارة إلى أنَّ هذه الأشياء التي علَّمها الله تعالى لآدم كانت مما في السماوات والأرض، وكانت معروفة عند الملائكة، ولكنَّ العلم الذي تعلَّمه آدم كان غائبا عنهم، وقد ميزه الله بهذا العلم لأنه جعله خليفة في الأرض. لقد امتلك الإنسان، إذن، خاصية التعلم والعلم والقدرات العقلية والحسية للمعرفة والبحث والاستقصاء للارتقاء في هذه الأرض وعمارتها…
لقد علمه الله كل شيء، علمه كيف يتكلم ويعبّر ويتخاطب، وكيف يجهز طعامه وكيف يفعل إن عطش أو خاف أو مرض.. علمه كيف يدبر أمور معيشته.. علمه كل هذا، ولولا تعليم الله له لبقي عالة لا يستطيع شيئا، فعلمه كيف يصلح دنياه، وكيف يصلح آخرته، وهذا هو الأهم. أفلا يدل ذلك على رفعة شأن الإنسان عند الله وواسع كرم الله عليه وتفضيله حتى على الملائكة بذلك العلم والعقل، ذلك إن هو سار على ما يرضي الله وأخلص العمل بذلك العلم ليسود توحيد الله ويرتفع صوت الحق ويدمغ الباطل…
(2) من علم حوّاء، هل علمها الله أم علمها آدم؟
أجاب الدكتور/ محمود نجا (الأستاذ المساعد بكلية الطب) على هذا السؤال، وموجز الإجابة فيما يلي: إن الله علم حوّاء كما علم آدم، لأنها بدون أسماء الأشياء لن تستطيع التعامل مع آدم ولا أن تفهمه، وربما نستدل على ذلك بقول الله: “وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35)”[سورة البقرة]، فالنهي لآدم وحواء قبل السكن في الجنة، وفهمته حواء كما فهمه آدم، وفي ذلك دلالة على معرفتها بالأسماء كمعرفة آدم. وإن قلنا علمها آدم، فهو بحاجة لوقت طويل ليعلمها قبل دخول الجنة، فأين ومتى حدث ذلك، وقد سكنا الجنة مباشرة بعد قصة السجود لآدم، وعليه لما سكنت حواء مع آدم، كيف فهمت أمر الجنة والسكن فيها، وكيف فهمت الأوامر والنواهي وشرط السكن في الجنة؟ ربما دل ذلك على أن الله هو من علم حواء كما علم آدم، وهو الأقرب لمنطق العقل، والله تعالى أعلى وأعلم.
(3) الدعوة إلى دوام طلب العلم:
ورد العلم في الآية (“علم الإنسان ما لم يعلم (5)”[سورة العلق] باستعمال صيغة الفعل الماضي “علَّم” دالاً على المستقبل من جهة وجاعلاً مدلول “ما لا يعلم” مفتوح النهاية، أي دائماً هناك ما لا نعلم، وكلما علمنا شيئاً كشفنا عن أشياء ما زلنا نجهلها، أو لم نكن نعلمها، أو لم نكن نعلم بوجودها أصلاً! وهذه الآية فيها تحفيز للإنسان ليبقى في طلب العلم على الدوام… خاصة، وأن الإنسان مخلوق قابل للتعلم، وقد وهبه الله من القدرات العقلية والحسية ما يستطيع أن يبحث ويطور ويتعلم ويحفظ، ثم جعل له الأرض وما فيها مسخرة بين يديه للعلم والبحث، وجعل له في السماء ما يقدر أن يسمح لعقله للوصول إليه وتدبره واكتشاف الحقائق التي تزيده قربا من خالقه… يقول الله تعالى “والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون (78)”[سورة النحل]، فالمرء الذي يولد من غير علم يكتسب العلم ممن حوله، يكتسب العلم وينميه باستمرار، يكتسبه من الأرض التي يعيش فوقها، ومن السماء التي يجلس تحتها، ويكتسب العلم الديني على مر الزمان من الأنبياء الذين بعثهم الله لهداية البشر، وكذا من ورثتهم من العلماء، ومن مصادر علمهم الذي وثقوه للبشر، ويكتسب علوم الدنيا من أهلها الذين يتقنونها، ومن وسائلها المعلومة.
(4) العلم هو الخاصية المميزة للإنسان:
لقد كانت الخاصية التي ميّز الله بها آدم وذريته هى “العلم”، وهكذا لا يتميز الإنسان إلاّ بما أوتى من علم… وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زاخرة بما يرفع أهل العلم ويُعْلى قدْرهم وفي نفس الوقت يحملهم مسئولية جسيمه مسئولية، تلك هى قيادة البشرية وريادة الإنسانية. ومن المأثور عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (سلُوا اللهَ علمًا نافعًا، وتَعَوَّذُوا باللهِ منْ علمٍ لا ينفعُ) رواه الألباني، في صحيح ابن ماجه، عن جابر بن عبدالله، الدرجة: حسن. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له) رواه مسلم، في صحيحه عن أبو هريرة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسَدَ إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلَكته في الحق، ورجلٌ آتاه الله الحكمةَ فهو يقضي بها ويعلِّمها) رواه الشيخان البخاري ومسلم… وإنه لمن المعلوم لدى العقلاء أن خير العلم ما عمَّق صلة العبد بربه وبني جنسه، وحدّد له موقعه من الكون ونبّهه إلى آيات الله المنظورة (الكون)، كما أعانه على فهم آياته المسطورة (القرآن)، وذلك لأن كل معرفة صحيحة هى في الحقيقة معرفة إسلامية… ولقد فهم أسلافنا هذا ووعوه جيدا، ومن ثمَّ حفظوا رسالة هذا الدين وأعلوا بذلك رسالة العلم.
(5) ضرورة بذل العلم ونشره والعمل به:
في ربط الآيات “اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)”، يقول العلماء: كلما قرأت وتعلمت ازددت علما وفقها، وذلك من كرم الله سبحانه. وإن كنت كريما على الناس بتعليمهم ما علمك الله فهو الأكرم منك، فهو من كان سببا في ذلك الفضل عليك برزقك إياه، ورفع شأنك بين الناس بفضل ذلك العلم، ولعل الله فتح لك به أبوابا للرزق والخير الكثير، كما قيل (من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، وَمن أراد الاثنتين معاً فعليه بالعلم)، فَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ بِأَنَّ العِلْمَ هُوَ سِرُّ عِمَارَةِ الدُّنْيَا، وَعِمَارَةِ الدِّينِ، وَعِمَارَةِ الآخِرَةِ، قَالَ تعالى: “… يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)”[سورة المجادلة]. إن هذا من أعظم كرم الله على الناس أن أعطاهم العلم لرفعة مكانتهم وعلو شأنهم في الدنيا والآخرة. وأما من أمسك الإنفاق من العلم خوفا من نقصه أو منافسة الآخرين له، أو ظنه أن ذلك العلم خاص به ويبخل عن الإنفاق لغيره، فذلك هو الجاهل الذي ما عرف مقدار كرم الله سبحانه وكثرة عطائه.. فأنت كلما أنفقت خالصا لوجه الله كلما زادك من كرمه وفضله، فهو الرب الأكرم الذي لا يعلو فوق كرمه كرم. إن هذه دعوة لعدم كتمان العلم وحبسه في داخل الصدور بل يجب إفادة الناس منه وتعليم الناس الخير وتوجيههم إليه، وهذا من أعظم ما يتصدق به الإنسان على نفسه وينفعه في حياته وبعد موته. عن أبي هريرة عن النبي قال: (من كتم علما يَعلمه جاء يوم القيامة مُلْجَمًا بِلِجَام من نار). وفي أهمية العمل بما علمه الإنسان، يقول الشيخ/ محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) – أثناء تفسيره للآية (9) من سورة الزمر:… ثم إن العبد حينما يعلم ويعمل بعلمه يُفيض الله عليه بالمزيد، فيعطيه علمَ المكاشفة، وعلمَ الفيض، رحمةً منه سبحانه وفضلاً، كما رأينا في قصة العبد الصالح الذي صاحبه سيدنا موسى عليه السلام وقال الله تعالى في شأنه: “آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً (65)”[سورة الكهف]، كذلك الرحمة في سورة الزمر: “وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ (9)”[الزمر]، أي: الفيوضات الخاصة التي يفيض الله بها على مَنْ ظل في معيته (ا.هـ).