بقلم-ياسين إزاز
أحكمتُ إغلاق باب سيارتي فورد فوكس السوداء، وفردتُ ظهري بعد أن رميت شنطتي السوداء في الكرسي الخلفي. انشغلت قليلا بالرد على زميلي في العمل، وأنا أخرج غاضبة من تعمده لاعتراضه طريقة. كان شابا قبيحا، مكتنز العضلات، لا تفارق السيجارة شفتيه المسودتين من فرط التدخين. يبدو لئيما، لكن غالبا ما يشعرني بأني أنثى؛ يروقني ذلك، غير أني لا أبالي أمامه.
احمرت الإشارة أمامي. أربعة وثلاثين ثانية سأقضيها وأنا انتظر حتى تبدأ السيارات الزحف. سأظل ألعن الثواني حتى تتلاشى، تبقت ثلاثون ثانية من الانتظار غدت ثلاثين فصلا من الحنين. تعصف بمخيلتي ذكريات أيام الشقاء، والتسلل خلسة عبر الحدود، الصحراء القاحلة التي مررنا بها، فصل الشتاء القاسي الذي قضيناه نتوسد أكفنا المجعدة. دون سابق إنذار، ينقطع سيل الذكريات الجارف، فيخلفه وابل من الأسئلة تتهاطل في ذهني؛ هل هي نائمة؟ هل تعشتْ؟ هل لبستْ بجامتها؟ هل …؟ قاطع سيل تخيلي جرس الهاتف. التقطته، بعد أن لويتُ ظهري لأسحب شنطتي التي رميتها في المقعد الخلفي. وضعته أمامي، وكعادتي بدأت في الحديث معها وهي لا تزال تقبل شاشة الهاتف بكل ما أوتيت من مشاعر. ولا تزال بسمتها كما هي رغم قسوة أيام الاغتراب.
“البناية تتحرك”
قالتها بصوت هش خالطه صراخ حاد. اهتز هاتفها، علا صراخها، حاولت الفرار لتختبأ تحت الطاولة. لا تزال تصرخ بصخب وتستنجد. كانت كلمة “أمي” هي أول ما بدر منها. حاولت تهدئتها، لكني لم أفلح.
تحركت السيارة التي أمامي بتثاقل، فتبعتها. أسرعت حتى أصل إلى البناية التي نقطن بها. لم أفكر بما سيجري، كان صدى صراخها يتردد في مسمعي بين الفينة والأخرى. يتعالى صراخها. يتردد من جديد. أشعر أن هناك صخباً، تنقض المباني العالية أمام ناظري، وصراخ طفلتي ذات السبعة أعوام لا يغادر ذهني.
تمر من أمامي صور واهنة، متماسكة، خيوط متداخلة كبيت عنكبوت لا يقدر على ثقل عدة جرامات. ما أصعب أن تظل عاجزا عن دفع الأذى عن من قضيت عمرك تطوف العالم بهم لتبعدهم عن دوائر الخطر. أحين أعتقدتُ أني نجوت بها من أهوال الموت، يخطفها الموت مني؟! ما أخبث الخطر الذي يأتي متلثما في رداء الأمان. أبعد أن وهبتها كل شيء لأمنحها الحياة التي تريد، لكني الآن أجلس مكتوفة الأيدي لصد الموت عنها.
تخر البنايات واحدة تلوى الأخرى، تسقط صخرة ضخمة بالقرب مني، فاغمض عيني كي أتجنب شظاياه.
يحل الظلام فجأة. لا أبصر أمامي شيئا سوى الظلام الدامس، أتعرق خوفا، يداي ترتجفان، وقدماي الحافيتان بتاتا لا يقدران على حملي. أحسستُ وكأني أحدق نحو بؤرة مترابطة نحو اللامنتهى، أراقب اللاشيء، بعينين أرهقهما البكاء، وجسد ضخم يخطو بثبات نحوي، اسمع وقعَ خطواته .. إنه يقترب .. اصرخ بكل ما أوتيت من قوة، فتبتلعه الظلمة، يختفي هنيهة قبل أن يظهر ليرمي قطعة قماش ملطخة بالدماء، كالتي كانت ترتديها طفلتي. يقف على بعد خطوة، يكاد يعانقني لو مد يده، لكنه لم يفعل. أو ربما حاول فتجاهلته دون أن أدرك ذلك. يلوّح لي الجسد الأسود الضخم .. وكأنه يرمي بخطيئته نحوي.. يبتسم .. وصدى صراخي لا يزال يتردد في مسامعي .. يعلو ويهبط .. ثم يختفى تماما في الظلام. أفتح عيني، فأجدني واقفة وسط البنيان المنقض، والغبار يكسو بأسًى سماء مدينتي حديثة الألفة والاغتراب، غازي عنتاب.
خطوتُ بارتباك ما إن استقر الجدار المنقض تواً، من هول الفجيعة لم أكن أدرك ما أفعله، أقلب الأحجار، وأبكي عجزا أمام التي لا أستطيع قلبها. كنت أمني نفسي لو تمد لي يدها الناعمة من تحت الركام، فأجرها من تحت الجدران المنقضة لأضمها إلى صدري. استمر في البحث، ابحث وابحث، لا شيء سوى العثور عليها يشغل خلدي الآن. من ذا يحاول البحث عن كنز دفن في صحراء قاحلة دون دليل؟! من ذا يفكر في إخراج لؤلؤة من أعماق المحيط المتجمد؟! لكنه قلب الأم، يصنع من المحن منحا، ويقلب حروف الألم أملا، يفعمني بحيوية لأنبش الركام، علني أجدها تحت حطام عطوف.
تتلطخ يداي بالدماء، امسحها في نحري، وامسح دموعي التي تسيل من مآقيّ كجمر يحرقني، تتغير بحة صوتي من فرط الأنين .. سأواصل. ربما أجدها. ربما لا تزال تنتظرني أن احتضنها؛ فأنا وهي وهي وأنا وسوانا وغيرنا وكلنا ونحن وهم وهؤلاء والذين على الشارع الموازي نعاني من ذات المشكلة.
مالذي يتعبنا أكثر من البكاء؟
ما يتعبنا أكثر من البكاء ألا نجد من نبكي عليهم، وما يهوّن علينا فجائع الموت، ألا نجد جثمانا نشيعه، فنرثي موتانا دون البحث عن هوية الميت، لأننا في الموت نتساوى، نحزن جميعا دون النظر إلى معتقداتنا، دون أن نكترث إلى طبقاتنا الإجتماعية اللعينة. الموت أعدل قاض عرفته البشرية، هو أعدل من القانون، حيث لا أحد يستطيع أن يتحايل عليه، أوفَى من ضابط المخابرات، حيث لا يتقاضى الرشوة لإخفاء قضية، أو إسقاط ملف.
اكتظت الشوارع بفريق الانقاذ، لكن ماذا سينقذون؟ الحطام؟ الرفات؟ بقايا أطراف؟ لا شيء! ربما قدموا لأنه يجب عليهم القدوم. اكتحلتْ عيناي بالأسى، فعزمتُ على محو كل الذكريات الجميلة من ذاكرتي، ظننت بأن الاحتفاظ بها خيانة؛ فالشعور بالسعادة في مواسم الحزن جريمة لا تغتفر في عرف الأحرار. حين نحزن يجب أن نبالغ في الأسى، يجب أن نبقى مخلصين لأحزاننا. الجميع يحزن بطريقة سطحية، عدا الأمهات، فإنهن يحزنّ بعمق على كل طفل فقيد؛ لأنهن أدرى بكل ما يحمله الفقد من شعور. رحلتْ طفلتي، رحلتْ أم نجتْ؟ هل ارتاحتْ من شقاء السنين؟ نجتْ من قصف سوريا، فابتلعتها ركام تركيا. إنه الموت مرة أخرى، يرحل بنا إلى حيث نشعر بالأمان. لكن حقا لا يوجد رحيل مفاجئ ولا موت مرير، إنما هو شيء محكم يترقب الوقت المثالي للانبجاس، لتنطلي عليك حيلة المكر وتعيش على ما تبقى من عمرك على قيد الحزن وتحاول تفادي وجع الذكريات.
بقلم: ياسين إزاز