مقتطف من قصة” الأمنية” من مجموعتي القصصية ” مروج الأماني”
الأُمنــــــــــية
– يا قمرا …. يلتهمني نورك، منذ أبصرتك تحتل رحم السماء، فتولد كبيرا وتولد معك أمنية البداية ، تنبت معك آمال البدء بغرس مباهج هنا وهناك ، البداية ….. مرت عليها أيام، …شهور، وصارت ماض ينتكس في انتكاستك المخادعة للعيون الحالمة، حينما تكبر صغيرا، فتصير بدرا ، و تكبر لتصير هلالا، ثم تكبر و تكبر وأنت تضمحل شيئا فشيئا .
يا قمرا، رأيتك كبيرا ، خلتها النهاية، فلم تكن سوى بداية ، ولم يكن ذلك سوى بريق لأمنية عششت في الفؤاد، لكنك صرت تضمحل عند كل بداية وعند كل نهاية.
في رحم السماء ، تختلف النواميس …..وتصبح عالما من الألغاز والبريق .
كم هي جميلة الشمس بضيائها ، يا ضياء ….ستحرقني ….يا ضياء …لو اقتربت منك سأتفحم، كيف تكون المقاربة ؟ وكيف تكون المفارقة؟
الشمس جميلة ….وتؤذي، بغير ذنب تؤذينا، لماذا؟ كيف لها أن تؤذي هذه المشرقة من لم يسئ إليها أو يعتدي على حقوقها؟
كلنا يعلم أن الشمس طيبة وتمنحنا الضياء، ثم تنبت بإذن الله النبات في السراء والضراء، هي تمنحنا دفئا وشعاعا وزيادة ، وتكتب جمالا وترسي أمانا، مداعبة إيانا برحمة غاية في الحنان وإن بدت أحيانا عنيفة.
على جبل الذكريات، كان كمال واقفا يناجي نفسه، في قمره أو شمسه، تندفع أمامه الصور الماضيات، فتخزه بقضبان من حنين، لتحلق به في وهج أنينه وأنينها.
كانت المسافة بعيدة، وكان يهوى العودة.
– لكن أي نوع من العودة كان يريد؟ أهي عودة إلى الذكريات و الماضي الجميل؟ أم هي تخط للبحر لملامسة أرض الطفولة، أرض الآباء والأجداد.
هل كان يهذي كمال حينما نادى أمه ؟
أي أم تقصد يا كمال؟ هل الجزائر الجريحة تقصد؟ أم كل ثكلى ترفع نشيجها إلى السماء ؟
هل أمك التي ولدتك تقصد ؟ هل عرفت أمك يوما؟
في تساؤلاته كان يسير ، في ذكرياته كان يتكسر، وقد ترك ما حوله وسبح في آماله البعيدة.
أتى إلى أرض غريبة تذكره ببشاعتهم، لكن الظروف وحدها هي من أرغمه على ذلك، بشاعة الفقر، وسطوة الحاجة، بل غضب عارم كان ينتهر البسمة أينما كانت ويقطف الفرح من عيون الزهور، ولم يفهم حينها ما يحصل.
فالأرض مستقلة، قد أنهى الأحرار فيها انتشار الظلام، حين أشعلوا بجسارتهم قناديل الحرية البيضاء، لم يعد يفهم.
ففي هذا البياض استمر بروز الشفق الأحمر، شفق يأتي بعد الغروب، وحمرة تدمي العيون والقلوب.
طال مكوثك فيها يا شفق، فمتى من أيامنا تنطلق؟ عذرا، فأنت تأتي بعد الغروب، مصفقا لمجيء ليل عابس من الظلمات، تنبض فيه القلوب بقوة، وتنتحب فيه الأمهات.
من هذا الذي أطفأ شمسنا بعد أن أشعل ضياءها أحرار أبرار؟ من ذا الذي تجرأ على استراق نهارنا بعدما بترت أواصر الظلام؟
هو الغروب يباركه الشفق الأحمر، مقبلا يهدم أبنية النور في كل مكان، هو الأحمر ينتشر صاعقا لأمل الحضور.
الحضور على أرض آمنة، لأمنيات ناعمة، لكن كل ذلك زج به في سجن الظلام، فعشش اليأس في القلوب، ونضبت كلمات الأنين، فصارت لا تنطق إلا في الكتمان.
هذا ما جعل الكثيرين يغادرونها، أرضنا المستقلة، بعدما تبدت في الأفق سحب غادرات، وكان كمال من هؤلاء الراحلين، فقد أنشبت الحسرة في قلبه أظافرا من حديد لا ترحم، فما من عمل يحفظ به كرامته، وما من أمن ترتع في أحلامه.
- أمي الغالية، سأهاجر إلى بلد لم يعترف حتى بإنسانيتنا من قبل فسامنا سوء العذاب.
- أنت يا بني ستذهب إلى فرنسا؟ لطالما أقسمت أن قدماك لن تطآ بلادا كان أناسها لأجدادك سجانين.
- الظروف يا أم، وحدها الظروف هي من ترغمني على ذلك، لكنني أعدك أنني سأنتقل إلى مكان آخر ما إن تتحسن ظروفي المادية.
- مكان آخر؟ وبلدك لمن ستتركه؟
- دعينا من هذا الآن، لكنني جئت لأودعك وأسألك الدعاء لي، فدعاؤك حصني أماه، ورضاك تاج على رأسي.
- لكن هل ستذهب حقا بني؟ من تعرف هناك في فرنسا؟ كيف ستعيش ؟ من سيأويك ؟
هو قلب الأم الرحيم يبكي، ينتحب ويفكر في أصغر التفاصيل التي تضمن الراحة لفلذة الكبد، حتى ولو كانت هذه الفلذة لا تأبه لتأوهاته ، لنفحات الوجد التي تلفحه بنيران الفراق، فحينما ينأى القمر، فلذة الكبد فإنها ستختفي شمس الحياة .
بهذا الوصف الجميل، كانت تدعو حورية ابنها، وازدادت تعلقا به بل خوفا عليه بعدما توفي والده على يد أحباب الغروب والشفق الأحمر.
كان صالح يعمل حمالا بأحد الأسواق اليومية ، تتعبه أحمال صناديق الخضر والفواكه فيتصبب عرقا، ويشهق تعبا، لكنه بذات الوقت يستنير فرحا بهذا الرزق الحلال، رزق طيب يطعم منه أحلى حبيبين له في الدنيا.زوجته وغصنها الفتي. كان ينظر إليهما فيتعجب من هذا التوافق بينهما كأنهما غصن وزهرة، ثم يبتسم وهو يدقق نظره بابنه الوحيد، كأنما كان يقرأ فيه المستقبل، بل آمال عظيمة.
سيكبر هذا الغصن فيصير جذعا قويا أستند عليه في شيخوخته، وسيتفرع منه أغصان غضة وأوراق طرية، سيحاول كل منها جاهدا أن يقدم كل ما في وسعه خدمة لهذا الوطن الغالي، فهو سليل عائلة ثورية تشرفت بالشهادة المباركة.
ثم حلت سنوات الجمر بلهيبها ، والحمال المتواضع لم يترك عمله ولم يبرح مكانه، بالرغم من الأحداث الكبيرة المؤلمة، أخبار تعصف بعقول العقلاء، أخبار دماء تتسربل من جديد على أرضنا الطيبة، التي صارت تلفضها بعيدا لأنها تعافها، فقد ارتوت من دماء زكية زمن النضال، والآن لم يعد أحد يفهم لم تسيل هذه الدماء بغزارة على أرضنا المستقلة.
النضال كان طويلا أليما، والهدف كان أن يحيا الأبناء في نعيم الأمان، لأن الأمان حقا نعيم، ففيه يمكن للمرء أن يستشعر بالراحة، وبالطمأنينة فيصغي لتغاريد الطيور، ويسعى لإقامة جسور جديدة تبني حاضر الأمة ومستقبلها.
هي أمنيات الجدود، لكنها لم تكن أكثر من أمنيات، لأن هناك من تجرأ على قتل الحمام، فبكت الحمائم وارتعدت الأمهات، وهاهي ذي حورية تدفع ضريبة باهظة ، حيث استشهد أبوها في ساحات النضال، ولحقه عصفوراه الأنيسان بعد فترة يسيرة، لتحيا هي اليوم بلا أنيس على أرض الحمام، و تعيش رفقة ابنها أفلام رعب ينسجها غرباء عن زمن الضياء، فقد خيم الظلام على تفكيرهم، ولبسهم العمى من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم.
كمال كان ينبت كالزهرة في عيون حورية، امرأة وحيدة كانت تعيش عند أعمام زوجها ، لأنه لم يعد لديها أحد وكانت فقيرة، فلم تمتع بما يمتع به أبناء الشهداء، فوالدها كان يحلم أن يأخذ أجره كاملا، فهو لم يكن يتقبل كلمة شكر و امتنان، بل كان دوما يقول: هذه الأرض كريمة، وتستحق أن ندافع عنها ليحيا فيها الكرماء.
كان يقصد أن يحيا الناس في سلام ورخاء ، لكن حورية فقدت الاثنين معا، كان هذا هو قدرها كما تكرر دائما: – هذا هو المكتوب .
بنفس راضية تقبلت الصدمة، حين فقدت الزوج الحبيب في حادث تفجير غادر للسوق الذي يعمل فيه.
قيل لها: – زوجك لم يكن مقصودا.
لكن ما الفرق؟ فالكل أبناء الجزائر؟ وفي حق الحياة هم سواسية.
مات صالح، وماتت أحلام كثيرة في قلبها وفي قلبه الصغير.
في العاشرة من عمره، عائدا ذات مساء من مدرسته، حين وجد بيتهم مكتظا بالزائرين. كان هذا غريبا جدا لديه، فليس لهم من أقارب يزرونهم، بل كانوا وحيدين في هذه الحياة.لم يفهم الصغير كمال ما يحصل فقد سمع العويل، والصراخ، ورأى أمه على الأرض منهارة تغطيها الدموع. فبصمت صورتها روح الأسى في فؤاده ، حيث ظن أن الدمع صار حظه من هذه الحياة، فلم يعد منذ ذلك الحين إلى المدرسة.
صار هذا اليتيم منطويا، قليل الكلام محبا للوحدة، وحتى أصدقاءه الذين تربى معهم منذ الصبا، تخلى عن صداقتهم، إنها الصدمة ورد فعلها العكسي، لكن الغريب أن تفاجئنا الحياة باندمال للمآسي في وقت نكون قد تعودنا عليها، بل وصارت جزء من المعتاد.
فبعد عام من الوحدة والانطواء، قرر الصغير العودة المفاجئة إلى مقاعد الدراسة ، كأن كمال عرف أن المسؤولية أعظم، ولن تكتمل إلا بتحصيل النور، وأوله تلك الحروف والأرقام.
ولأن القرار كان مفاجئا وغريبا، فقد أخذ هذا الصغير حقه من الحرص والاهتمام، فكانت المعاملة خاصة في البيت وفي المدرسة.
…..نجح كمال في البكالوريا وزغردت حورية وزغرد الجيران.
أربع سنوات في علم النفس، لماذا؟ ربما كان يريد أن يداوي جرحه النازف منذ دمعة احتلت عيون أمه ، ومنذ أسى قهر راحتها، فتنهدت بالأنين ونطقت بحروفه الناقمات، وإن حاولت أن تخفي هذه التنهيدات المتعبة، فما ” في القدرة يجيبو الغراف”( كل إناء ينضب بما فيه).
اكسر دمعها يا كمال، اصنع فرحا يغتال حزنها في رحمة، فقد صرنا في زمن يغتال فيه كل شيء بقسوة، زمن تغتال فيه الفرحة والبسمة، والحمامة والوردة، وتغتصب فيه الأمنيات الغاليات، ولا تخف، فالشعارات كثيرة، كل شيء غير متوفر وربما غالي الثمن، إلا الشعارات، فهي كثيرة ومجانية.
جميلة ميهوبي