تعد المؤتمرات واللقاءات العلمية من اهم الانشطة العلمية والاكاديمية للمؤسسات الجامعية والبحثية ، لما لها من اهمية لا تخفى عن الجميع في تنمية المعارف والمهارات وزيادة الخبرات والتعرف على الشخصيات العلمية؛ ولذلك يحرص كثير من طلبة العلم والباحثين على حضور المؤتمرات والندوات والملتقيات العلمية ومتابعة أخبارها واقتناء أوراقها.
حيث تعد المؤتمرات العلمية وجهة حضارية مشرقة للدول والمؤسسات العلمية، وهي من أهم المعايير العلمية لتقدم الدول، كما أنها تشكل أهمية قصوى في دفع عجلة البحث العلمي قدماً للأمام ،إذ تعتبر فرصة ثمينة للدراسة المتأنية الواعية لخبرات وتجارب الدول المتقدمة والأستفادة منها ، ووسيلة أكيدة للارتقاء بمختلف العلوم والتواصل المهني على أعلى مستوى..
ولذلك ينبغي لكل متخصصٍ في مجال من المجالات العلمية أن يحضر أو يشارك في أكثر من مؤتمر في كل عام، سواء في مجال تخصصه الأصلي، أو في مجال اهتماماته الأخرى التي يسعى لتطويرها وتنميتها، بشرط أن ينتقي من هذه المؤتمرات ما يكون ملائماً له، ملبياً لاحتياجاته العلمية والمهارية.
والواقع ان كثيرٌ من الباحثين والاكاديمين يَحرصون على حضور المؤتَمرات العلمية والمشاركة فيها بالبحوث أو التعقيبات أو غير ذلك من صور المشاركة وهذا أمرٌ حسنٌ؛ لما فيه من صقل التجارب العلمية، ومعرفة ما لدى الآخرين حول العالم من العلم والفهم والجديد، والتعرف على طبائع الناس والبلدان، وغير ذلك من الفوائد التي تحصل في تلك المؤتمرات إذا أُعطِيت حقَّها من الرعاية والصيانة من جميع أطراف المؤتمر، والجامعات تشجع منسوبيها على حضور مثل هذه المؤتمرات، وتساعدهم في دفع رسوم الحضور والمشاركة وفق أنظمة مقررة في لوائح الجامعات
إلا أنه وعلى الرغم من أن المؤتمرات والندوات العملية المحلية العامة والخاصة؛ شهدت حراكاً واسعاً وتطوراً ملموساً في السنوات الأخيرة؛ إلا أن الكثير منها لم تقدم الجديد ولا تزال دون المستوى المطلوب والمأمول والمنتظر ولا تلامس احتياجات الواقع وتحديداً من حيث محتواها ومضمونها وإعدادها وتقديمها والدعوى لها، وتعاني من تكرار الأسماء والشخصيات المشاركة بها وغياب بعض المختصين والخبراء؛ مما أفقدها الإبداع والتجديد والمخرج والإضافة العلمية اللازمة.
إنَّ كثيراً المؤتمرات في البلاد العربية والإسلامية ليست في المستوى المطلوب في الجانب العلمي ولا التنظيمي، وتغلب عليها المحسوبيات، والاجتهادات الفردية ، اضافة الى التكرار ، وتحول الكثير منها إلى مجرد بند ضمن بنود الفعاليات السنوية وفرصة للوجاهة الاجتماعية والشو الاعلامى او البزنس ، وصلت حد وصف البعض بانه ” فوضى المؤتمرات ” وانها اصبحت نوع من “الشو الاعلامى ” ، او ” البيزنس الرخيص” ، او مكلمة ومطعمة وفسحة ” ، او مجرد “براويز” إعلامية.
اضافة الى ان هذا العدد الهائل من المؤتمرات العلمية يكلف الجامعات اموال باهظة بالمقارنة بالجامعات العالمية التي قلما تعقد مؤتمرات بنفسها، فالمؤتمرات العالمية تعقدها منظمات ومؤسسات وجمعيات مستقلة تستقطب فيها علماء من كل الجامعات ومن كل البلدان، وتحقق في العادة ارباح للمنظمين.
وفى المقابل يرى البعض ان وجودَ عدد من المـآخذ على بعض المؤتمرات ، لاينفي إيجـابياتِها الكثيرة ، وإن من ذهب إلى المؤتمر بحسن نيةٍ، وحرصٍ على الفائدة لا بُدَّ أن يرجع بها، ولو من خلال اللقاءات الجانبية مع الشخصيات العلمية المشاركة، أما إذا شارك الإنسان فيها ببحثٍ أو ورقةِ عمل فهي تُعدُّ دافعاً وحافزاً كبيراً للبحث والقراءة والاطلاع؛ لأنها مرتبطة بأوقاتٍ محددةٍ فلا مجال فيها للتسويف.
ان المؤتمرات والندوات العلمية والتخصصية تُعد من أنفع ما ابتدعته الحضارة المعاصرة، وهي ثقافة مجتمعية إيجابية لا ينبغي أن نغفلها، بل يجب أن نتزود بها على اعتبار أن أهميتها لا تكمن في تبادل الأفكار والحوارات والخبرات والتواصل فقط، بل إنها من أهم عوامل التنمية في المجتمعات الحديثة في جانبها الاقتصادي والثقافي والعلمي والتنموي؛ حيث تتلاقح فيها الأفكار الجديدة مؤدية إلى نِتاج معرفي وعلمي تستفيد منه المجتمعات و تواجه به تحدياتها المستقبلية والمتنوعة. كما أن التوصيات التي تخرج منها تُضيف قيمة علمية وتساهم في إثراء المعرفة في مجالات التنمية المختلفة، بالإضافة إلى كونها تُعد مُنطَلقا لإجراء المزيد من الدراسات والبحوث المتعلقة بالتنمية
والواقع ان الوقت الحالي يشهد طفرة كبيرة فى اقامة تلك المؤتمرات تمثلت فى ما نلمسه من حرص كل قسم وكل كلية وجامعة بل وكل جمعية علمية على عقد مؤتمراتها بشكل دورى فى كل عام ، حيث أضحتْ المؤتمرات في هذا العصر صناعةً قائمة ، لها أبعاد مختلفة علمية، وسياسية، واقتصادية، وإعلامية، وغيرها ، فى ظل زيادة صور التكامل والتعاون بين دول العالم لنشر الثقافات وتبادل المعلومات فى ظل تطور ووسائل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ، ازدياد عدد منظمى المؤتمرات ومكاتب التسويق للمؤتمرات ، وظهور مراكز متخصصة لاقلمة المؤتمرات بها تضم قاعات مجهزة بأحدث الاجهزة السمعية والمرئية والمعدات اللازمة للعرض والترجمة الفورية، و مساهمة الفنادق والمنتجعات السياحية بدور فاعل فى تنظيم المؤتمرات وتقديم كافة سبل الراحة لأعضاء المؤتمر من اقامة ومأكولات وإعداد برامج ترفيهية وسياحية .
إن الناظر في أحوال الأساتذة الجامعيين في الجامعات العربية مع المؤتمرات يجد أنهم أصناف ثلاثة: الصنف الأول: من لا يأْبه بهذه المؤتمرات ولا يقيم لها وزناً، وربما رأى بعضهم أن المشاركة فيها تضييع للوقت أو انشغال عما هو أهم، وهذا ناتج عن صورة ذهنية مشوهة عن المؤتمرات، أو بسبب تجربة غير موفقة في حضور مؤتمر ضعيف أو غير مناسب لهذا الأستاذ، اما الصنف الثاني: فيتمثل فمن يحرص على حضور المؤتمرات والمشاركة فيها، ويتتبعها هنا وهناك، ولكن حضوره حضور سلبي، قد يكون الغرض منه النزهة، وقضاء بعض الحوائج في بلد المؤتمر، ولذلك لا يهتم بموضوع المؤتمر، ومكانة المؤسسة المنظمة له، ويتغيب عن حضور بعض الجلسات، وإن حضر لم ينصت، ولم يداخل ويناقش، وربما انشغل بهاتفه، أو استسلم للنوم، وإن قدم ورقة فهي من باب تحلَّة القسم ؛ حيث لا يتقن بحثها وكتابتها ، ولا يحسن عرضها وتقديمها، بل من أجل أن تشفع له في الحضور، أو تحتسب له وحدة بحثية في الترقية، كذلك تجد هذا الصنف لا ينتهز فرصة الحضور للتعرف على الشخصيات العلمية واللقاء، بهم بل تجده يحرص على الجلوس مع زملائه الذين حضروا معه، ويعد الصنف الثالث أفضل الأصناف، والذى يشارك مشاركة مثمرة ؛ فينتقي من المؤتمرات أجودها تنظيماً، وأحسنها موضوعا،ً وأنسبها لتخصصه واهتمامه، ثم يحرص على تقديم ورقة متميزة فيها، أو يحضر حضوراً إيجابياً فيداخل، وينصت، ويعقّب، ويتعرَّف على أهل العلم والخبرة في مجال تخصصه، كما يسعى إلى اقتناء الأبحاث والمجلات والكتب المتميزة التي توزع أو تباع في المعارض المصاحبة، كذلك يستغلُّ أوقات الراحة بين جلسات المؤتمر، والاجتماع على مائدة الغداء للتعرُّف على المشاركين والاستفادة منهم، كما يزور بعض المكتبات ودور النشر، والمعاهد والشخصيات العلمية في البلد المستضيف.
ان التكلفة والنفقات الضخمة لتلك المؤتمرات سواء النفقات المباشرة او المنظورة ، ام النفقات غير المباشرة او غير المنظورة لها ، وهي أكثر بكثير من الإنفاق المباشر، فكم من الوقت والجهد يهدران في الإعداد والإدارة والمشاركة والحضور، هذه المؤتمرات التي تكلف الكثير من الأموال يجب أن تكون بوابة تُنفَّذ عبرها استراتيجيات تخدم المصالح العامة، وليس مجرد “براويز” إعلامية؛ ذلك أن ما يُقاس من نجاح هو ما يسجَّل في رصيد “التنمية” وليس عدد المؤتمرات وكثرتها.
الامر الذى يستلزم ضرورة مناقشة جدوى وحسن اسثمار الاموال الكبيرة التى تنفق على تلك المؤتمرات وما يمكن ان تحققه من نتائج وعوائد ايجابية عديدة وفوائد ضخمة ، وما يؤخذ على بعضها من ماخذ وسلبيات سعيا الى تقديم مجموعة المقترحات والتوصيات بهدف الاستفادة من تلك المؤتمرات وتوظيفها فى تحقيق الاهداف التى تعقد من اجلها ، وسعياً لتلافي سلبياتها ، ومحاولة إيجاد الحلول المناسبة لها، ولا سيما مع كثرة المؤتمرات، وتكررها في أنحاء العالم اليوم، وحرص دول العالم على اقامتها ، وتنافس الجامعات فى تنظيمها وتوسيع نطاق الدعوة إليها، والمشاركة فيها ، بغرض تحسين صورة الدول أو الجامعات أمام بعضها، وكتعبير عن التواصل الحضاري ، ونحو ذلك من الدوافع التي قد يكون لها جوانب سياسية أحياناً ينبغي على العلماء والباحثين توظيفها التوظيف الأمثل.
بقلم : الاستاذ دكتور جمال الدهشان
عميد كلية التربية بالمنوفية