بقلم/المستشار محمد صبري الشامي
وقف إطلاق النار في سورية , من أغرب الإتفاقات القطبية للراعيين الروسي و الأمريكي , و أكثرها غموضا ً , ولنا أن نعتبره سابقة ً لا مثيل لها في تاريخ الحروب ..
دون شك فكل المعطيات السياسية والميدانية للإتفاق وما يحيط بها من مواقف إقليمية و دولية , معقدة و صعبة , و لا يمكن التعويل على أية هدنة وأي اتفاق فالغموض يلف المواقف والنوايا , ويجعل إتفاق وقف إطلاق النار إتفاقا ً هشا ًولا يملك أيا ً من فرص النجاح و الصمود أوالتطور نحو تطويق الحرب و إنهائها.
إتفاق ٌ تأرجح بين تفاؤل الرئيس الروسي الذي رأى فيه “خطوة حقيقية لوقف إراقة الدماء” , وحَذر البيت الأبيض الذي رأى فيه بارقة أمل رغم صعوبته , فيما رفضته بعض الفصائل و التنظيمات الإرهابية , ووافقت عليه ما تسمى ” المعارضة المسلحة أو معارضة الرياض ” , كما وافقت عليه الدولة السورية من خلال دبلوماسية عالية , و دون إضاعة فرص الحل على ضئالتها من خلاله , عساها تصل إلى مبتغاها في وقف الحرب و وضع النهاية لما تتعرض له البلاد منذ خمس سنوات لحرب ٍ ظالمة و قاسية لم تستثني البشر والحجر.
لقد أتى الإتفاق بعد أربعة أشهر لعاصفة المد الهجومي والحسم العسكري الذي أعلنته الدولة السورية وحلفائها على الأرض , والتي ترافقت بمشاركة الدولة الروسية في الحرب على الإرهاب .. والتي تعرضت لحملة إعلامية كاذبة طالت دورها الفعلي والحقيقي, وحاولت تشويه سمعتها و تقويض مبررات تمركزها على الخريطة السياسية و العسكرية للحرب.
ووسط أجواء ٍ لاتوحي بحسن العلاقات و التوافقات مع الإدارة الأمريكية يُفاجئ العالم بولادة الإتفاق وصدوره في بيان روسي– أمريكي مشترك , و وسط تحركات وزيارات ٍ و إتصالات مكثفة لهما مع مجموعة من الدول الإقليمية والغربية , كزيارة العاهل الأردني لأمريكا , وزيارة ملك السعودية لموسكو , ومجموعة إتصالات مع القيادة الإيرانية والقطرية , وإتصال الرئيس بوتين بالرئيس الأسد.. وإعلان بعض الدول الإقليمية موافقتها على الإتفاق و ترحيبها به .
و لنا أن نطرح السؤال , كيف لهذا الإتفاق الذي يملئه الغموض و العديد من الثغرات أن يحصل على إجماع أغلب الأطراف ؟؟
لا شك أن لكل طرف ٍ فهمه وغايته , و يرى عبره مسلكا ً جديدا ً ً لمتابعة الحرب , إذ يبدو من الواضح أن التوافق الدولي- الظاهري- حول الحل السياسي في سورية لم يرتق إلى حيز القناعة ولا زال يقبع في خانة المراوغة و الخداع و إعادة التموضع .
فالإتفاق و يا للغرابة لم يتطرق إلى موضوع استمرار الدعم السعودي و التركي للإرهابيين و تدفق المال و السلاح , و دون توقف لعبور الإرهابيين عبر الحدود التركية نحو الداخل السوري , كذلك لم يعالج العدوان التركي المستمر و قصفه بالمدفعية الثقيلة لأماكن تموضع الجيش العربي السوري , وفصائل حماية الشعب الكردي المناهضة له ولمجاميعه الإرهابية .. و لنا أن نطرح السؤال : لماذا لم يأتي هذا الطرح كشرط ٍ أساسي في البيان ؟
كما أن الإتفاق لم يعتمد على لائحة ٍ معلنة واضحة للتنظيمات الإرهابية و التي بات من الواضح تهّرب مجموعة الدعم الدولية الخاصة بسورية, و تهّرب الدولة الأردنية والمبعوث ديمستورا منها, والتي تعتبر من صلب مهامه الأساسية ؟.
إن الإتفاق يحمل من الغموض ما يكفي لحبك الفوضى أكثر فأكثر , فالتداخل في بنية التنظيمات الإرهابية لا يدع مجالا ً لإيضاح الصورة , على الرغم من تأييده لإستمرار محاربة تنظيمي داعش وجبهة النصرة و بعض التنظيمات الإرهابية الأخرى- كما جاء في البيان -, فتنظيم جبهة النصرة لطالما احتوى و انضوت تحت أمرته و حمايته عديد المجموعات والفصائل الإرهابية , مما يزيد في تعقيد المشهد و تراجع فرص نجاح وقف إطلاق النار.
من الواضح أن الحل السياسي لا يزال بعيد المنال , وأن الولايات المتحدة الأمريكية تزداد ضعفا ً يوما ً بعد يوم , فعامل الزمن الذي راهنت عليه خمس سنوات , بدأ يلاحقها و أصبح عاملا ً ضاغطا ً على الرئيس أوباما , الأمر الذي يفسر سرعة الحركة و التحرك و مخاوف الوزير كيري من هروب الزمن , و تأجيل و إقصاء و تصدير الدور الأمريكي للإدارة اللاحقة , ما دفعه للتهديده بتقسيم سورية , و يفسر تصاعد التمرد الإقليمي التركي و السعودي اللذان استطاعا فرض الكثير من أجنداتهما على أجندة الرئيس أوباما و كيري , بعدما تأكد ارتباط مصير هذه الدول و الأنظمة بمصير الحرب على سورية , واقتراب الإدارة الحالية من سن التقاعد و لم يعد بمتناولها متسع ٌ من الوقت للتفكير في حل الأزمة خلال فترة حكمها , فالإنتخابات الأمريكية على الأبواب , وقدرة الرئيس أوباما على إتخاذ القرارات الإستراتيجية تنخفض أكثر فأكثر .
لذلك كان اللجوء إلى المراوغة و الخداع عبر الإتفاق و الذي تحصر عبره الإدارة الأمريكية في وقف المد الهجومي للحسم السوري و أقله إبطاء تقدم الجيش العربي السوري و الحد من تغيير موازين القوى على الأرض لصالحه , و احتواء الصدمة في ما حققه حتى الاّن .
وفي وسط هذه الأجواء يرى بعض السوريين خللا ً أو غموضا ً في الدور الروسي, يصل لحد التفكير بالمقايضة من هنا وهناك ! , و يتسائل البعض عن أسباب توافق الإدارة الروسية مع نظيرتها الأمريكية في هكذا إتفاق !؟.
و لكن .. لا بد من معرفة أن العلاقة السورية الروسية أكبر وأعمق مما هو معلن و يتخطى حدود العلاقات الإستراتيجية و يكاد يلامس حدود التوأمة.. ولا نستبعد أية إتفاقات غير معلنة و قد تصل لحد السرية في هكذا ظروف وتعقيدات , والتي لن يطول زمن إعلانها ومعرفة الحقائق.
و بما يشبه اليقين نؤمن بفشل هذا الإتفاق , ولا نرى من خلال كل الظروف المحيطة و مواقف الدول الإقليمية و الغربية أية فرصة لنجاحه , ونؤمن أنهم لن يسمحوا للإتفاق بالخروج إلى النور , فلا زالت مواقفهم هي هي و إيمانهم المعلن بالحل العسكري هو خيار وحيد ما فتئوا الإفصاح عنه والمجاهرة به .
و يبقى تعويل السوريين على الميدان و بنادق الجيش العربي السوري, و ثقتهم بقيادتهم الشجاعة والحكيمة, واستمرار تعاونهم و تنسيقهم مع حلفاء صدقوا ما عاهدوا عليه في المقاومة اللبنانية و دولة إيران الإسلامية و دولة روسيا العظمى.