كتبه/محمد صبري الشامي
الخلاف والإتفاق الروسي – الأمريكي تكرر خلال الحرب على سورية عشرات المرات وعلى مدى خمس سنوات, فيما الحرب تستمر والميدان يقول كلمته,لكن الجديد هو أن يُعلن هذه المرة عن الإتفاق مجددا ً مع فارق استصدار قرار وقف الأعمال القتالية و البدء بتطبيقه و الإلتزام به لمن وافقوا عليه ومن التحق بهم و يستمر عنوان التوافق الكبير في استمرار محاربة تنظيمي “داعش” و ” جبهة النصرة “.
فعلى ماذا اتفق اختلف واتفق القطبان ؟
فالخلاف بينها بدأ بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية , يوم انتصرا كحليفين, لكن سرعان ما تحولا إلى ندين و طرفين متصارعين ..وخاضا حربا ً باردة أسفرت عن ولادة العصر الأمريكي بالقطب الأوحد ..الأمر الذي سمح للأخير برسم مشروعه وتعميمه على الكون.. متجاهلا ً المصالح والأمن القومي و المجال الحيوي للحليف السابق في يوغوسلافيا و ليبيا وسورية و أوكرانيا.
لقد سعى الروس للعودة من خلال مظلة الأمم المتحدة وتمسّكها بالقانون الدولي و بإحترام حرية واستقلال و سيادة الدول الأعضاء ..وشكلّت سورية عبر أزمتها والحرب عليها نقطة استناد ٍ كبيرة اتكأ عليها الروس في إطار الصراع الجيو- سياسي , معتمدين على العلاقات الروحية والتاريخية والثقافية للشعبين السوري والروسي , الأمر الذي يفسر استخدامهم حق الفيتو لأربع مرات لصالح وجود وبقاء وحرية واستقلال سورية ومنع تشظيها أو تقسيمها .. في رسالة قوية للحد من الهيمنة والتمدد الأمريكي أكثر فأكثر نحو القلعة الدمشقية.. على الرغم من إعتماد و إصرار واشنطن استعمال وكلائها وأدواتها الإرهابية في الحرب على الدولة السورية.
لقد كانت باكورة إتفاق الحليفين السابقين في اختبار رغبتهما بعدم توسيع رقعة الحرب وتفادي حربا ً عالمية ً جديدة,على الرغم من رفع درجة حرارة بعض الملفات الكبرى في بحر الصين وأوكرانيا واليونان وتركيا وليس بعيدا ًعن تسخين ملفات القضية الكردية,والإبقاء على سخونة الصراع العربي – الإسرائيلي تحسبا ً لردود فعل محور المقاومة في هذا الوقت,والتهديد بحلول أمريكية مدعومة برعونة أردوغان و أطماعه , وتاّمر ملوك و بعض حكام العرب وتخليهم عن فكرة العداء لإسرائيل.
أما الإتفاق التالي .. فجاء بعد المشاركة الروسية في الحرب على الإرهاب في سورية و انطلاقة الجيش السوري نحو الحسم, وما تلاه من انتصارات ميدانية كادت تقلب كافة المعادلات لصالح الدولة السورية.. الأمر الذي أجبر الطرف الأمريكي للتفكير جديا ً في الحل السياسي , وعليه تعاظمت حاجته و إعتماده على “المعارضة ” بشكلها السياسي .. و ُأجبرت على استخدام الإرهابيين كقادة حقيقيين وميدانيين, فيما بقيت مشكلة التصنيف الإرهابي عقبة ً, حاولوا تجاوزها بإخفاء أسماء وفد المعارضة واختزالها بمعارضة الرياض.
ومع إنكشاف ضعف الأدوات الإرهابية وتتالي هزائمها أمام تقدم الجيش السوري , و فشل السعودية باعتبارها الذراع الأمريكية الأولى وعجزها الواضح في تغيير نتائج حروب الساحات الساخنة في اليمن والأقل سخونة في لبنان اقتضى ضرورة تليين المواقف و خفض مستوى التأزم في العلاقات الروسية مع السعودية و دول الخليج و بضمان توازن علاقاتها مع إيران هذا من جهة , و من جهة أخرى مواجهة الغطرسة والتمرد الأردوغاني – الذراع الثانية – و إصراره على عدم الخروج من الحرب مهزوما ً و فتحه ملف القضية الكردية و تحويلها إلى قضية قومية يخفي ورائها أطماعه في حكم تركيا و القضاء على خصوم الداخل , و أحلامه في سلب المزيد من الأراضي السورية , وأضغاث أحلامه في الدخول إلى الإتحاد الأوروبي متكئا ً على ملف اللاجئين و إرباك أوروبا ومقايضتها بقبول شروطه ..
يأتي الإتفاق الثالث على ضرورة إنهاء الحرب في سورية , والضغط على المعارضة التي يسعى الجميع لتوسيع أطيافها, وجعلها صاحبة أكبر تمثيل و بوفد واحد , والتغاضي عن قائمة التنظيمات الإرهابية , وقد يكون التوافق على إعتبار كل من قبل الهدنة كمعارض ” معتدل ” .. و أتى الإتفاق الثالث بالإتكاء على القرارات الدولية و الأممية 2253 و 2254 و 2268 وتوافقات مؤتمري فيينا و ميونخ , وجهود مجموعة دعم سورية .
و ما يعزز هذه الطروحات خفض مستوى التصريحات الأمريكية و الروسية على مستوى الرئاسة و إختفائها تقريبا ً , وطرح مفاهيم الفدرلة و لو إعلاميا ً ,و الحديث عن ضرورة و إمكانية مشاركة الأكراد ….إلخ.
يبدو أن القطبان قد وضعا أجندة الحل السياسي وفق رؤيتهما المشتركة واستبعدا نظرية ” كسر الخصم” والهزيمة الكاملة, بما يضمن حفظ ماء وجه الجميع خصوصا ً الولايات المتحدة الأمريكية و السعودية و تركيا, وبعض أطراف وشخصيات المعارضة.. و أن ما يجري حاليا ً في جولة مباحثات جنيف هو تقييم مدى مقاربة أجندات كل الأطراف للأجندة المشتركة للقطبان الدوليان , باستخدام الضغط الأمريكي على حلفائه في السعودية و تركيا و إسرائيل و هذا ما بدا جليا ً في تصريحات الرئيس أوباما و لومه لهم علانية .. أما روسيا فقد مارست ضغطا ً على الدولة السورية بتحويلها الجزء الأكبر من دورها العسكري إلى دور حقوقي وقانوني يمكنها تحويل الملفات العالقة والشائكة من قائمة الحل العسكري إلى الحل الدستوري القانوني الذي سيقره الدستور الجديد للبلاد , كما تحولت قاعدة حميميم إلى ممارسة عمليات المصالحة الشعبية والوطنية , ومراقبة الخروقات , و تبعها قرار الرئيس بوتين بسحب الجزء الأكبر من قواته العسكرية في سورية نحو قواعدها في روسيا , على الرغم من إعادة التأكيد على المواقف الروسية السابقة بدعم سورية في محاربة الإرهاب.
و يحق لنا أن نطرح السؤال : ماذا لو فشل السوريون في الإتفاق و الحوار ؟ فهل سيُفرض على السوريين حلا ً جديدا ً على غرار معاهدة فرساي ؟
يبدو أننا أمام حقيقة ثابتة.. فجنوح العالم للسلام أو لمتابعة الحرب.. لن يغير صلابة السوريين, و لن يوقف دفاعهم المقدس عن وطنهم.. وهاهم ينحتون على صخور التاريخ الحديث نتائج صمودهم .. كرامة ً وعزة ً وشموخا ً, و أصبح لهم شرف المساهمة و باليد الطولى في تغيير و رسم ملامح العالم الجديد , الخالي من الهيمنة و الإملاءات , و مصادرة حق الشعوب في تقرير مصيرها , و حرية قرارها , و استقلالها الوطني الحقيقي .