كتبت/مرثا عزيز
لم يكن أحد فى حى العباسية يشبه العم “فهيم” فى فرحته، الرجل الذى لا تسعه الأرض كلما نظر فى وجهى ابنتيه الجميلتين، مارينا وفيردينا، فمنذ أن جاءتا هذا العالم وهما تشكلان بسمته وجائزته الأكبر، يكفى أن يطالع وجهيهما لينسى آلامه ومتاعبه، وأن ينفق وقته فى تخطيط مستقبليهما، وأن يخرج للعمل حتى يشتاق لهما، ويعود مسرعًا حتى يستعيد الوطن الذى يسكن عيونهما، والذى يفقدها إذا غادرتاه لدراستهما أو حرمه النوم منهما.
يومًا بعد يوم تكبر مارينا وفيردينا، وتكبر أحلام العم “فهيم” وآماله وتطلعاته لهما، يتخيل ليلتى زفافهما وهو يشبك ذراعه فى ذراع كل منها وصولاً إلى عريسها، ثم يتوقف تفكيره ليحسد هذا العريس الذى سيفوز بقمره الصغير، بينما تكبر مارينا وفيردينا أمامه كزهرتى فل فى عود واحد، أو وردتين مشبوكتين فى صحبة واحدة، لا تفترقان تقريبا، تأكلان وتلعبان وتخرجان وتعودان وتنامان وتبتسمان وتتسامران معا، فقط ساعات الدراسة تسرقهما من بعضهما لتعودا سريعا محملتين بالشوق والحكايات التى تبحث عن أذن لتسمعها، ووسط هذه الحكايات يطل عم “فهيم” متلصّصًا وضاحكًا ومشاكسًا لوردتيه الصغيرتين، مبتهجًا لصحبتهما الدائمة التى لا يفصلها فاصل.
فى كل صباح يبدأ العم “فهيم” يومه بابتسامتى مارينا وفيردينا، يمسح على شعرهما، يطبع قبلته على جبينهما، يوقظهما، يتناول إفطاره معهما، بينما فى الحقيقة يفطر بالمحبة وبرائحة ابنتيه تعبق روحه، ثمّ يودعهما إلى عمله، أو تودعانه إلى المدرسة والجامعة، أو إلى الكنيسة كما هو الحال فى أيام الآحاد، لهذا لم يكن غريبًا بعد أن استعادوا كل طقوسهم الصباحية اليومية، أن تطبع الفتاتان قبلتيهما على جبين الأب وأن يودعمها بابتسامة حانية ووديعة، فالرحلة قصيرة وسريعة، وهما ذاهبتان إلى من لا يمكنه الغيرة منه والحقد عليه، فقط ستصلّيان وتحضران قداس الأحد مع “الآب” الذى خلقهما، لتعودان سريعًا لـ”الأب” الذى تمنّى وحلم وأنجب وربّى ورسم الحاضر والمستقبل، هكذا كانت العادة، ولكن العم “فهيم” والوردتين مارينا وفيردينا لم يعلموا أن حبل العادات انقطع، وأن الصحبة الدائمة تزعج بعض الناس البعيدين، الذين لا يعرفونهم، ولكن لديهم كرهًا للجميع، ولكل بسمة ومودة وصحبة وصلاة، خرجت مارينا وفيردينا للقاء الله فى قداس الأحد، وتدخلت يد الإرهاب ليكون اللقاء دائمًا.
مارينا طالبة الصف الثالث الثانوى، وشقيقتها فيردينا طالبة الجامعة، ودعتا منزلهما المواجه للكنيسة البطرسية بالعباسية، وودعتا والدهما، وقصدتا الكنيسة لحضور القداس، وهما لا تعلمان أنه قداسهما الأخير، وأن حياتهما المتطابقة التى لا فرق فيها، ستنتهى أيضًا وهم معًا، ليكون الموت أول فراق حقيقى وكامل ونهائى بينهما.هرع
العم “فهيم” إلى مستشفى دار الشفاء بالعباسية، عقب سماعه نبأ الانفجار ونقل الضحايا للمستشفى، ليجد وردتيه الجميلتين وقد قطفتهما يد الإرهاب السوداء، ما زالتا جميلتين ومبتسمتين، تزين الضحكة وجهيهما، وتحلق روحاهما النقيتان حول جسديهما وحول الشهداء والمصابين والأهالى المكلومين بالفراق والموت، ولكنهما لم تعودا معًا، فقد فرق الموت بين مارينا وفيردينا الفراق الأخير والأبدى.