كتبت/مرثا عزيز
بعد مفاجأة دونالد ترامب المدوّية، ها هو فرانسوا فيّون يُحدث مفاجأة فرنسية. ففي الدورة الاولى من الانتخابات التمهيدية حل اوّلاً بفارق كبير عن منافسه آلان جوبيه وأخرج رئيسه السابق نيكولا ساركوزي من السباق الى الرئاسة الاولى الذي سيجري في شهر ايار من العام المقبل.
على غرار الانتخابات الاميركية، كانت استطلاعات الرأي بغالبيتها تعطي تقدّما لمنافسي فيّون باستثناء شركة “ايبسوس” الوحيدة التي اعطته تقدّما في الاسبوع الاخير قبل التصويت. وهكذا كان يوم الأحد 20 تشرين الثاني. وكانت المفاجأة عند المساء بعد ان ظهرت نتيجة تصويت اكثر من اربعة ملايين محازب ينتمون الى اليمين. حصل فرانسوا فيّون على 44.2 بالمئة من الاصوات.
بينما حصل آلان جوبيه على 28 بالمئة ونيكولا ساركوزي على 20.6 بالمئة. وتقاسم المرشحون الآخرون ما تبقى من أًصوات. بالتالي يمكن القول ان فيّون ينطلق الى الدور الثاني مدعّماً بغالبية مريحة. لا نريد ان نستبق النتائج. فللنتظر حتى السابع والعشرين من الجاري ونرى من سيفوز بتسمية اليمين للترشّح الى الرئاسة الفرنسية.
اللافت في هذه الانتخابات هو تصويت الكاثوليك بكثرة لصالح فرانسوا فيّون. وبحسب المحللين لنتائج الانتخابات فإن 68 في المئة من ناخبيه كاثوليك. ما يدفعنا الى التساؤل عن سبب هذا التصويت في فرنسا العلمانية! برأينا هذا يعود الى عدّة أسباب أبرزها:
أولاً، سيرة فرانسوا فيّون الشخصية. فهو مسيحي كاثوليكي ملتزم. في كتابه الصادر في العام 2015 يذكر رئيس الوزراء السابق انه تلقى تربية بيتية مسيحية كاثوليكية وبأنه يقوم برياضات روحية سنوية في دير “سوليم” الشهير للآباء البنيدكتان في ضواحي باريس. فهو بذلك يجسّد بالنسبة الى الناخب الكاثوليكي الفرنسي “القِيَم المسيحية” كما عبّر احد الناخبين لمراسل صحيفة “لوموند” الفرنسية. وهذا بحد ذاته مُستغرب في فرنسا العلمانية التي تهتم اولاً وأخيراً بالقِيَم الجمهورية!
ثانياً، معارضة فيّون لزواج المثليين ورفضه الواضح لتنبيهم الأولاد. فهو اعلن انه مع اعادة النظر بقانون Tribau الذي صدر في العام 2013 وشرّع زواج المثليين. رفضه تبني المثليين الاولاد يعود الى اعتباره العائلة قيمة مسيحية تقوم على ارتباط رجل وامرأة ينجبان الاولاد. وهي ليست بارتباط شخصين من جنس واحد. وهذا ما يؤيّده المسيحيون الملتزمون والكنيسة.
ثالثاً، منذ العام 2015 يعلن فرانسوا فيّون دعمه الواضح لـ “المسيحيين الذي يُذبحون في الشرق من قبل مقاتلي الدولة الاسلامية”. وهذا يعني الكثير للكاثوليك الفرنسيين الذين يرتبطون بعلاقات تاريخية مع الكنائس الشرقية الكاثوليكية تعود الى القرن الخامس عشر. ففي حزيران من ذاك العام قام المرشح اليميني بتنظيم لقاء في باريس ضم اكثر من 1600 شخصية سياسية ودينية لدعم مسيحيي الشرق الاوسط. وأعلن في خطابه “ان السياسة هي ايضاً في خدمة القِيَم الاساسية”.
والمسيحية بالنسبة إليه هي احدى هذه القيم. وقد استتبع مبادرته هذه بزيارة لبنان والعراق للوقوف على اوضاع المسيحيين في البلدين وإظهار الدعم لهم. ففي حزيران 2016 قام فرانسوا فيّون بزيارة الصرح البطريركي والتقى البطريرك الماروني بشاره الراعي. كما التقى بطريرك السريان الكاثوليك في اربيل. وهناك التقى ايضاً متطوعين في جمعيات تدعم المسحيين المشرقيين.
رابعاً، لم يتّخذ فرانسوا فيّون موقفاً رمادياً تجاه الارهاب الاسلامي و”الاصولية الاسلامية”، كما يسمّيها، وطريقة التصدي لها في المجتمع الفرنسي. فهو اعلن صراحة وقوفه ضد “الاصولية” وضد “التوتاليتارية الاصولية”. واصدر كتاباً بعنوان: “دحر التوتاليتارية الاسلامية”. يبدو ان تسمية الاشياء بأسمائها تجذب الناخب الفرنسي – المسيحي الذي يخشى تنامي الاصولية الاسلامية، بخاصة بعد ان شاهد ارهابها يضرب على الاراضي الفرنسية خلال السنوات الاخيرة وكان آخر عملياته مجزرة نيس. هذه المجزرة كانت الدافع الى اصدار كتاب فيّون الذي قال صراحة في مقابلة مع صحيفة “لو فيغارو” ان “هناك صعوداً للاصولية الاسلامية في المجتمع الفرنسي”.
وقد اقترح لمعالجتها فرض رقابة على المساجد وعلى الخطب الدينية وعلى التمويل الخارجي لها، وطالب بإعادة النظر في العلاقة مع الدول الداعمة والمموّلة للاصولية الاسلامية. كما يؤيّد طرد الافراد الذين يدورون في فلك الارهاب وضد عودة الفرنسيين الذي ذهبوا للقتال الى جانب “داعش”. في المقابل بقيت مواقف منافسه آلان جوبيه رمادية وغير واضحة تجاه هذه المسألة التي باتت تقض مضجع كل فرنسي بعد الاحداث التي شهدتها فرنسا وتزايد عدد النازحين السوريين والنقاش الحاد الذي جرى حولهم ليس فقط في فرنسا إنما في اوروبا بكاملها.
لا شك في ان هذا الموقف لاقى ترحيباً لدى الفرنسيين الذين اصبحوا يعانون من “الاسلاموفوبيا” ومن التجمعات في المساجد ومن خطب مشايخها. كما شاهدوا هذه الاصولية تضربهم في عقر دارهم وتقتلهم بأبشع الطرق منذ العام 1995 وصولاً الى الهجوم على “تشارلي ابدو” حتى كارثة نيس البشعة. وما يزيد من تأييد الفرنسيين للخطاب ضد الارهاب الاسلامي هو وصول هذا الاخير الى حدود الاتحاد الاوروبي البرية من الجهة الشرقية (مع تركيا) والبحرية من الجهة الجنوبية (بخاصة مع ليبيا).
ينتقل فرانسوا فيّون الى الدور الثاني من الانتخابات التمهيدية داخل حزبه ومعه غالبية مطلقة مريحة بعد تجيير نيكولا ساركوزي اصواته و مرشحين آخرين أصواتهم له. بالتالي له الارجحية بالفوز في السابع والعشرين من الجاري. فوزه يعني ترشيحه لخوض السباق الرئاسي الفعلي الذي سيجري السنة المقبلة حيث سيتقابل مع منافسين من أحزاب أخرى. اذا كان حزب اليسار الاشتراكي منهكاً بعد سنوات حكم فرانسوا هولاند، فإن حزب اليمين المتطرّف متماسك حول زعيمته مارين لوبان.
لم يَرُق لهذه الاخيرة خطاب فيّون الاخير. فهو يقطع عليها طريق جذب بعض اليمين الى خطّها المتشدّد. لا بل هو يجذب اليه، بخطابه الواضح والحازم تجاه العديد من القضايا، بعض مناصري اقصى اليمين الذين يرون ان سياسة “الجبهة الوطنية” خطرة على مستقبل فرنسا والاتحاد الاوروبي. وهو الاهم بالنسبة للناخب الفرنسي.
الانتخابات الفرنسية لا تزال في مرحلة تسمية المرشّحين. ولا يزال مبكراً التكهّن بالفائز. خاصة وان الزمن هو زمن التحوّلات الجيوسياسية التي يبدو انها تنتج مفاجآت انتخابية. فالارهاب اصبح معولماً. بينما تعيد الدول الكبرى النظر في ظاهرة العولمة. و”الدب الروسي” يعود قوياً الى الساحة الدولية. في حين نشهد تراجعاً في الدور الاميركي في بعض الملفات الدولية. ويعيش الاتحاد الاوروبي ازمات كيانية مع صعود الشعور الوطني في دوله وتنامي الاحزاب التي تنادي به، وخروج بريطانيا منه، ودخول النازحين السوريين وغير السوريين اليه بعشرات الالوف،…
بالامس احدث فوز دونالد ترامب صدمة عالمية. فهل تُحدث الانتخابات الفرنسية في ايار المقبل صدمة اوروبية؟!