بقلم: الشريف الدكتور صبري السبكي
أن حماية الأوطان والحفاظ على سيادتها واستقلالها ومقدراتها والحفاظ على سلامة أراضيها وأجوائها ومياهها الإقليمية مهمة لا يحملها الا العظماء الذين وهبوا أنفسهم من اجل هذا الواجب المقدس دينياً ووطنياً ودستورياً. ومن يقرأ السجل التاريخي المجيد للقوات المسلحة يجده حافلاً بالمآثر البطولية والمواقف النضالية التي من خلالها اثبتت هذه المؤسسة الوطنية الكبرى ولاءها المطلق لله وللوطن وللثورة. ويحظى الجيش المصرى على مر الأزمان والعصور بمكانة عظيمة واحترام شعبى ودولى كبيرين لتاريخه العريق ودوره الوطنى داخليا واقليميا بل وعالميا. فعلى مدار التاريخ المصرى لم يكن الجيش مجرد أداة للحروب بل كانت المؤسسة العسكرية نواة للتنمية الشاملة وقاطرة التحديث بالمجتمع والبوتقة التى تنصهر بها كل الخلافات الفكرية والدينية والجغرافية محققا الاندماج الوطنى واليد المصرية القوية المتحدة التى حوت امتدادات اقليمية وقومية وعربية. وقد لعب الجيش دورا لا يمكن تجاهله على مر التاريخ لتطهير الوطن من خونة الشعب سياسيا أو اجتماعيا وكان حريصا على خدمة الشعب والأمة وليس الحكومة السلطوية أو الفساد والطغيان بل كان دوما وسيلة وطنية للتخلص من جرائمهم. وصدق الرسول الكريم عليه الصلاة و السلام حيث قال : (إذا فتح الله عليكم مصر فإتخذوا فيها جنداً كثيفا فإنهم خير أجناد الأرض و هم في رباط إلى يوم الدين) لذلك كان من الضرورى لنا إلقاء الضوء على لمحات من تاريخ هذا الجهاز العظيم وانعكاسات هذا الدور وتلك المكانة على سياسته الحالية. تاريخ العسكرية في مصر .. أقدم الجيوش النظامية في العالم .. يعد الجيش المصرى من أقدم الجيوش النظامية في العالم حيث تأسس قبل اكثرمن 5200 عام ،وقد كان ذلك بعد توحيد الملك نارمر لمصر حوالي عام 3200 ق.م. فقبل ذلك العام كان لكل إقليم من الأقاليم المصرية جيش خاص به يحميه، ولكن بعد حرب التوحيد المصرية أصبح لمصر جيش موحد تحت إمرة ملك مصر. و كان الجيش المصري من أقوى الجيوش وبفضله أنشأ المصريون أول إمبراطورية في العالم وهي الإمبراطورية المصرية الممتدة من تركيا شمالاً إلى الصومال جنوباً ومن العراق شرقاً إلى ليبيا غرباً، وكان المصريون هم دائماً العنصر الأساسي في الجيش المصري. ومازالت بعض الخطط الحربية المصرية القديمة تُدَرَّس في أكاديميات العالم ومصر العسكرية. قيادات ومعارك على مرالعصور .. وقد قدمت العسكرية المصرية القديمة العديد من القواد العظماء وكان أنبغ هذه العقول العسكرية هو الإمبراطور (تحتمس الثالث) أول إمبراطور في التاريخ وهو الذي أنشأ الإمبراطورية المصرية وفي رصيده العديد من المعارك والحروب, أشهرها معركة “مجدو”والتي ما زالت تُدرَّس حتى اليوم. والقائد أحمس قاهر الهكسوس و قد شارك الجيش المصري في تحرير مدينة القدس من أيدى الصليبيين في واحدة من المعارك التاريخية على مر العصور ، وكان قائد المعركة البطل صلاح الدين الأيوبي وكان الجزء الأكبر من جنوده من المصريين . وبالإضافة إلى ذلك قادت القوات المصرية دورا كبيرا في هزيمة المغول الذين دمروا الدولة الإسلامية العباسية بقيادة القائد قطز. اقسام الجيش قديما ..وقد كان الجيش المصري قديما يتكون من الجيش البري (المشاة والعربات التي تجرها الخيول والرماحين وجنود الحراب والفروع الأخرى) والأسطول الذي كان يحمي سواحل مصر البحرية كلها إضافة إلى نهر النيل . لتحمي مياهنا الاقليمية وتدعم توسع الامبراطورية. خير اجناد الارض .. ومنذ مجىء عمرو بن العاص فاتحا مصر ناشرا لديانة الاسلامية – مجدت مصر- بالقرآن والسنة أخذ المسلمون بحديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذى قال فيه: «إذا فتح الله عليكم مصر، فاتخذوا فيها جندا كثيفا فإنهم خير أجناد الأرض وهم فى رباط الى يوم الدين». ومنذ ذلك الحين قادت مصر العالم الاسلامى نحو الفتوحات سواء غربا حتى المغرب العربى أو شرقا وشمالا وفى حروب مواجهة الصليبيين والتتار وغيرهم. فقد كانت مصر دوما هى درع الأمة بجيشها العظيم وهم من حملوا على عاتقهم مواجهة العدوان الاوروبى الذى سعى لنهب واحتلال الأراضى العربية فقام رجال نجم الدين أيوب وشجرة الدر بالقضاء على حملة لويس التاسع على مصر والتى اجتمع عليها قادة أوروبا لاحتلال الشرق العربى فدحرهم الجيش المصرى و قد كان الجيش المصري العماد الأساسي في معركة تحرير مدينة القدس من أيدى الصليبيين في واحدة من المعارك التاريخية على مر العصور ، وكان قائد المعركة البطل صلاح الدين الأيوبي. ولا ينسى التاريخ إنتصار الجيش المصري العظيم بقيادة القائد سيف الدين قطز في معركة “عين جالوت و”هزيمة المغول الذين دمروا الدولة الإسلامية العباسية. الجيش المصري الحديث .. وفى العصر الحديث وبتولى محمد على مقاليد الحكم ، عمل على بناء جيش مصري قوي فاستقدم الخبير الفرنسي “سليمان باشا الفرنسي ” لتنظيم وبناء جيش قوي حديث يمكنه خوض الحروب والدفاع عن الأراضي المصرية وتحقيق رغبته فى بناء امبراطورية مصرية اعتمد بشكل أساسى على الجندى المصرى لينطلق بقيادة ابراهيم باشا لتأمين حدود مصر الاستراتيجية من تركيا شمالا إلى الصومال جنوبا ومن جزيرة رودس اليونانية الى بلاد الحجاز نحو اليمن وهى الحملة التى قادها ابنه الثانى طوسون فاجتمعت الدول الأوروبية والقوى العالمية كلها ضد مصر وأنقذوا الدولة العثمانية من الهزيمة على يد الجيش المصري ودمروا الأسطول المصري وكان هدفهم الاساسى تدمير قوة الجيش المصرى رمز القوة والوطنية المصرية. و عندما حاول الخديوى اسماعيل النهوض بمصر وجيشها كانت دول أوروبا له بالمرصاد خاصة بعد ما اتجه بجيشه نحو حدود مصر الاستراتيجية افريقيا وهى الصومال فأقصوه وأغرقوه وخليفته محمد توفيق فى الديون والرقابة الثنائية والدولية . وقاموا بتغيير هيكل الجيش المصري وخفض عدد قواته وإدخال عناصر أجنبية كقيادات في الجيش. ثورة عرابى..و لم يغفل الجيش المصرى يوما عن دوره الوطنى
فبعدما رأى عرابى ورفاقه حالة المهانة التى تعيشها مصر ورغبة دول أوروبا قهر النزعة الوطنية المصرية وبالطبع لم تكن الثورة نتاجا حصريا لسياسات عهد الخديوى توفيق. فمع تضخم الأزمة المالية فى عهد الخديوى اسماعيل تدخلت الدول الكبرى فى شئون مصر عبر انشاء «لجنة صندوق الدين» فى مايو 1876وبعده جاء نظام «المراقبة الثنائية» فى نوفمبر من نفس العام ثم لجنة التحقيق الأوروبية فى يناير1878 التى طالبت بتنازل الخديوى عن أطيانه وأطيان عائلته كرهن لسداد الديون بالإضافة لاحداث تغيير فى الحكم وأن يتنازل عن سلطاته المطلقة فاستجاب لهم اسماعيل وأصدر فى 28أغسطس 1878 قراره الشهير بانشاء مجلس النظار وتخويله مسئولية الحكم وعهد لنوبار باشا بتلك الوزارة التى كانت بداية لوجود وزيرين انجليزى وفرنسى مما أدى لاستياء عام استغله الخديوى اسماعيل فأقال نوبار وعين شريف باشا رئيسا للوزراء واختار جميع اعضائها من المصريين مما أثار جميع دول أوروبا التى احتشدت وأقنعت السلطان العثمانى بعزله وتعيين ابنه توفيق فى 26 يونيو 1879م. وبمجئ توفيق الذى استسلم لإملاءات فرنسا وانجلترا ورفض دستور شريف باشا طمعا لعودة الحكم المطلق فاستاء الرأى العام والذى زاده سخطا حكومة رياض باشا التى أساءت معاملة الوطنيين وضيقت عليهم الخناق عبر اعادة لجنة المراقبة الثنائية ثم لجنة التصفية ووجود ناظر حربى متعصب للاتراك والشراكسة هو عثمان رفقي الشركسى. وبدأت ثورة عرابى عندما قدم عريضة فى 15 يناير 1881 ومعه عبدالعال حلمى وعلى فهمى يطلبون عزل وزير الحربية عثمان رفقى فقبض عليهم رياض فثار الجيش المصرى وحرر عرابى وزملاؤه وتحركوا جميعا نحو سراى عابدين مطالبين بإقالة وزير الحربية فاستجاب توفيق وعين محمود سامى البارودى بدلا منه فقد كانت الثورة عسكرية أول الأمر. ومع المطالب الشعبية برفع الظلم عن الشعب أمر عرابى بحشد الآليات إلى ميدان عابدين صباح 9 سبتمبر 1881 لتقديم مطالب الجيش والأمة بإسقاط كل وزارة رياض وتشكيل مجلس نواب على النسق الأوروبى وزيادة عدد الجيش إلى 18 ألف جندي فإستجاب لهم توفيق وتم تشكيل وزارة شريف باشا الثانية. بعد ذلك جاءت استقالة شريف الثانية إثر تدخل إنجلترا وفرنسا لمنع مجلس النواب من مناقشة الميزانية فشكلت وزارة جديدة برئاسة محمود سامى البارودى كان فيها أحمد عرابى وزيرا للحربية وهو أول وزير حربية مصرى منذ إنشاء محمد على الجيش المصرى الحديث. ولأنه وطنى ومن جيش وطنى سعى عرابى للدفع بنشر التعليم الاجبارى وإصلاح المحاكم الأهلية وسعى محمود سامى بدوره لانشاء مجلس أعلى للإدارة والتشريع لكن بريطانيا لم تكن تريد لمصر نهوضا فعقدت مؤتمر الاستانة فى يونيو 1882 لتستغل قيام عرابى بدعم تحصينات قلاع الاسكندرية فطالبوه بوقف هذه التحصينات ، وعندما رفض عرابى إنذارا بتسليم الإسكندرية لقائد البحرية البريطاني هاجمت قوات الأميرال سيمور الاسكندرية واحتمى به الخديوى توفيق الذي أصدر قرار بعزل عرابى فرفض الجيش والشعب ذلك. وظل عرابي يحارب قوات الغزو البريطاني فى كفر الدوار ثم التل الكبير ولولا خيانة الخديوى توفيق و ديليسبس وخنفس باشا قائد حاميه القاهرة والبدو وشعراوى باشا لكان التاريخ قد تغير. فبعد صد الانجليز عن كفر الدوار هزموا الجيش المصرى فى التل الكبير يوم 9 سبتمبر 1882 بسبب خيانة البدو ثم سمح الفرنسي “فرديناند ديليسبس للاسطول البريطاني باستخدام قناة السويس مخالفا لاتفاقه مع عرابي ولاتفاقية القسطنطينية التي لاتسمح لقوات الغزو الأجنبي باستخدام القناة. ودخلوا القاهرة فى 14 سبتمبر ليتم بعدها محاكمة عرابى وصحبه لينفى الى جزيرة سيلان (سريلانكا) وتحتل بريطانيا مصر ويبقى الاحتلال جاثما على صدر مصر 74 عاما كاملة. ورغم سنوات القهر والقمع الاحتلالى كان الجيش المصرى الذى استخدم فى الحربين العالميتين الاولى والثانية لصالح إنجلترا أملا فى وعود منح الاستقلال يغلى سنوات طويلة وهو يرى المهانة فى عزل خديو وتولية سلطان أو ملك وتقسيم الوطن العربى فى معاهدات مثل سايكس بيكو ومنح فلسطين لليهود فى وعد بلفور وهى أمور وغيرها الكثير جعلت الجيش المصري العظيم كالبركان الثائر يغلى تحت الرماد إنتظارا للحظة الحرية من قيده الذى كبله به الحكم الفاسد والحياة السياسية مطاطأة الرأس للملك والاحتلال. واخيرا وليس اخرا سوف نسرد في المقال القادم تاريخ جيش مصر في عصر الثورة