بقلم: إيمان ماهر منسى
تلعب الثقافة و الفنون كلاهما دورا هاما بل جوهريا فى تنشئة أجيال و مجتمعات على درجة عالية من التقدم العلمى و الرقى الفكرى. و تكمن أهمية الفنون فى إشباع الرغبات الروحية: فالفنون هى إفراز لثقافة المجتمع و من ثم فإن ثقافة المجتمع هى صورة عكسية أو مرآة لهذه الفنون. و عليه فإنه يجب غرس حب الثقافة و الفنون فى المجتمع بصفة عامة و فى الطفل بصفة خاصة حيث أن التعليم فى الصغر كالنقش على الحجر. لذلك يتحتم على المجتمعات جميعها أن تسعى لنشر ثقافة القراءة و الإطلاع بين الأفراد، لا سيما الأطفال، و تشجيعهم عليهما منذ نعومة أظافرهم و ذلك عن طريق قراءة الكتب أو مشاهدة الأفلام التسجيلية و الوثائقية أو حضور الندوات أو الاطلاع على شبكة الإنترنت و مواقع التواصل الاجتماعى. فالثقافة غذاء للروح و العقل و لها فضل عظيم؛ إذ أنها تعمل على توسيع المدارك و إصقال المعرفة مما يسهم فى تكوين فرد واع ذو فكر متطور و بناء غير مؤمن بالمسلمات. فضلا عن ذلك، تسهم الثقافة فى نشر ثقافة الحوار، أو بعبارات أخرى تقبل الرأى و الرأى الآخر: فيكون الفرد المثقف على يقين أن “اختلاف الرأى لا يفسد للود قضية” و أن الحرية الفكرية حق مكتسب لا يمكن لأحد أن يسلبه إياه شرط أن تكون تلك الحرية قائمة على تفكير علمى سليم لا على الفوضى. و الجدير بالذكر أن الثقافة تمثل ركيزة أساسية لقصص النجاح بعد الكوارث: خير مثال على ذلك دولة اليابان التى اتخذت من الثقافة و الفنون سلاحا سلمياً تصنع به النجاح تلو الآخر بطريقة عجيبة و فريدة. إذ استطاع اليابان، بفضل الثقافة، أن يبنى نفسه بعد أن ألقيت عليه قنبلتين نوويتين: فها هى دولة اليابان تهتم بالقراءة و ذلك بإطلاق شعار “القراءة فى كل زمان و مكان” و قد اعتبر اليابان الاستثمار فى هذا المجال أحد أهم أولوياته فأصبح قوة عظمى تحذو حذوها جميع دول العالم. و عليك أن تتأمل عزيزى القاريء أين أصبح اليابان الآن بفضل شعبه المؤمن بالثقافة و الفنون: فوفقا لأحدث الدراسات و الإحصائيات العالمية يحتل اليابان اليوم ثالث أفضل نظام تعليم أساسي عالميا بتعداد نقطى بلغ 99.9 نقطة كما تمتلك دولة اليابان بمفردها 57 شركة فى نادى ال 500 شركة الأغنى و الأكبر على سطح الأرض. كما ينفق اليابان على البحث العلمى و التقنى ما يزيد عن 150 مليار دولار سنويا بالإضافة إلى احتلالها المركز الرابع عالميا كأفضل بيئة فنية ملائمة للابتكار. الآن يأتى دور الفنون حيث أنها وليدة الثقافة. و الفن لا يعنى فقط الإحساس بالجمال و لكنه يسهم بشكل واضح فى إعلاء قيم الأخلاق و الفضيلة و العمل الجاد و قيمة العلم و الدفاع عن الوطن إلى غير ذلك من القيم التى تعد عصب نجاح و تطور أى مجتمع. و على ذلك تأتى الفنون بكل ما تحمله من إبداع كتطبيق ملموس للثقافة علما بأن كل فن يحمل دائما نورا إلى الآخر: فالرسم و النحت و النقش و المسرح و الموسيقى و الرقص و الأدب و غيرها من أنواع الفنون من شأنها أن تأخذ الإنسان إلى عالم راق تقطنه كل معانى الحب و السلام و التسامح فتجعل منه كيانا متحضرا نابذا لشتى أشكال العنف و الكراهية و التعصب و العنصرية و الزينوفوبيا: تلك المفاهيم التى باتت، مع الأسف الشديد، جزءا من حياتنا اليومية. و تأتى التجربة الألمانية كخير شاهد على دور الفنون فى تطور الشعوب و تقدمها. فعندما تمت إعادة برمجة الألمان -بعد الحرب العالمية الثانية من قبل الأمريكان – إذ كانت أمريكا تؤمن أن “كل ألمانى نازى”- تم اللجوء للفن و ذلك عن طريق أفلام محتواها التسامح و الأخوة من بينها فيلم “كل البشر أخوة” و الذي يظهر فيه أحد الألمان كما لو كان طفلا تعلم بعد عمر طويل أن الشعوب مختلفة و أنهم يجب أن يعيشوا معا. و اليوم و بعد مرور عقود كثيرة، ها هى ألمانيا و عاصمتها برلين تعد نموذجا مثاليا لحاضرة ثقافية متعددة الجنسيات: فمن بين 3،4 مليون شخص يعيشون فيها، هناك عدد كبير من الفنانين و الكتاب و الموسيقيين الذين يساهمون فى اضفاء اتجاهات متنوعة على أجواء برلين الإبداعية الشهيرة. من هذا المنطلق، و اقتداءا بتلك النماذج المتقدمة و إيمانا منا بذلك الدور المؤثر -السابق ذكره- للثقافة و الفنون نناشد المجتمعات العالمية عامة و العربية خاصة، و أخص بالذكر، بلدى الحبيب مصر -تلك الأرض النى كانت مهدا للثقافة و الفنون على مر العصور- بالمبادرة فى توعية أفرادها بأهمية الثقافة و الفنون و ذلك عن طريق الاهتمام بقصور الثقافة و مراكز الإبداع و دور الأوبرا و مراكز الشباب و المكتبات و تشجيع المواهب الفنية فى المدارس و الجامعات دون تمييز: فالفن لابد و ألا يكون حكرا على الطبقات الراقية؛ الطبقات الوسطى و الفقيرة التى تعانى من الفقر و الجهل فى أمس الحاجة لهذه المبادرة. و لكن يؤسفني القول أننا كثيرا ما نتحدث و نتقن فن الكلام بينما لا تحتاج مجتمعاتنا إلى مزيد من الكلمات بل لمزيد من الأفعال: كفانا تفاخرا بالماضى و لنسعى لخلق حاضرا و مستقبلا راقيا ذو نهضة نفخر به و تفخر به أجيالنا القادمة التى ستكون كوادر قادرة على قيادة تلك النهضة! و لكن انتبه عزيزى القاريء: إعادة هيكلة المجتمعات بإدراج الثقافة و الفنون ضمن معتقداتها ليس بالأمر السهل على الإطلاق. فقد بتطلب ذلك عدة سنوات إن لم يستمر الأمر عقودا أو قرونا و على الرغم من ذلك مجرد البدء فى تنفيذ تلك المبادرة سيشعرنا بتقدم ملحوظ و لو بخطوات صغيرة. نحتاج إذا إلى تضافر جهود كل مؤسسات الدولة للنهوض ببلادنا ثقافيا و فنيا. فإذا أردت مجتمعا راقياً خاليا من الإرهاب فعليك بتأسيس مدينة فاضلة من الثقافة و الفنون و متى غرست بذور الثقافة و الفنون، حصدت مجتمعا لا يشوبه الجهل، قادر على مواكبة تحديات العصر الحالى. و لا يسعنى سوى أن أختتم مقالى هذا ببيت لأحد الشعراء عندما مدح الفنون و حث على الاهتمام بها قائلا:
“الفن إشراق الحياة و رفقها
و ذو الفنون ملائكة أبرار
إن الزهور من التراب مثارة
و الفن من نفس الجمال مثار
لا تهملوا أمر الفنون فإنها لنهوضنا و رقينا معيار”