قيم تعليمية في ثقافة احترام النظام العام ” اللغةُ العربيةُ… وَثَقَافَةٌ الوَعْيّ بِرِقَّةِ الطَّبْعِ”

 

بقلم 🖊
الأستاذ الدكتور/ أحمد خليفة شرقاوي
رئيس الإدارة المركزية لشؤون التعليم بقطاع المعاهد الأزهرية.

لقد تكلم أكابر العلماء في رفعة العلوم وجلالها، يقول الإمام الشافعي – رحمه الله- وهو بصدد تصنيَف العلوم قدرًا وشرفًا: ” من تعلَّم القرآنَ والتفسير عظُمَت قيمتُه، ومن نظر في الفقه نَبُل مقدارُه، ومن كتب الحديثَ قَوِيَت حجَّتُه، ومن نظر في اللّغة رَقَّ طبعُه- أى تعلمها – ومن نظر في الحساب جَزُلَ رأيُه، ومن لم يَصُنْ نَفْسَه لم يَنْفعه علمُه”(الإمام المُزَني عن الإمام الشافعي)، وكأن الناظر في اللغة العربية الناهل من علومها والمحصِّل لفنونها قد استجمع محاسن العادات وجميل الصفات، فكان في عِلمه عميقًا، وفي عَمله دقيقًا، وفي طَبْعِه رقيقًا، وفي أدبه رفيعًا، وفي أخلاقه عظيمًا، وفي عطائه كريمًا، وفي مظهره أنيقًا، وفي حديثه لطيفًا، وفي سؤاله مُرِيحًا، يقول أحد الحكماء إذا سألت – أى عند الحاجة- فسأل أصيلًا فإن لم يعْطِك أراحك، أى أراحك بلين جانبه، ولطف حديثه، وجميل كلامه، وقد قيل أيضا: ” أضيئوا أرواح الناس بطيب الكلام”، ولنا في رسول الله – صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة، فقد قال – صلى الله عليه وسلم- في شأن لين الجانب وأدب التخاطب وحسن البيان وعفة اللسان: ” ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان ولا الفاحش ولا البَذٍئ” (رواه الإمام أحمد والترمذي).

وقد جاء في أثر الكلمة الرقيقة الطيبة قوله تعالى: ” أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ”( سورة إبراهيم، آية ٢٥)، ونقيض الكلام الطيب الكلام الجارح المؤلم، وهو أشد أثرًا في النفوس السوية من السهام العاتية، لذا؛ يقول يعقوب الحمدوني: جِراحات السِّنانِ لها التِئامٌ .. وَلا يلتأمُ ما جَرَحَ اللسانُ، ويقول أحمد شوقي: ” إن النصح ثقيل فلا ترسله جبلًا ولا تجعله جدلًا “( أسواق الذهب لأحمد شوقي، ص ١١٧)، ويقول أيضا: ” الحقائق مرة فاستعيروا لها خِفة البيان”، وما جاءت عبارة فاستعيروا لها خفة البيان إلا طلبًا للرقة عند النصح، ودفعًا للشدة والغلظة عن المنصوح له، ويؤيد هذا قوله تعالي: ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين”(سورة آل عمران، آية ١٥٩).

وعليه فينبغى أن يدرك الناس في المجتمعات العربية والإسلامية جلال اللغة العربية وجمالها، وعلو شأنها ومنزلتها، وكريم فضلها ورقّة طباع أهلها، فهي لغة القرآن الكريم، الذي تكفل الله بحفظه وبيانه، قال تعالى: ” إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”(سورة الحجر، الآية رقم ٩)، وقال أيضًا: ” إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ”( سورة القيامة، الآيات
١٧- ١٩)، واللغة العربية قد نزل بها القرآن الكريم، ومن ثم فهى أداة لفظه، وبيان مقصوده، ووسيلة حفظه، ومفاتيح فهمه وبيانه، وهي ملكة اللغات، وصاحبة العزة والرفعة، فضلا عما تتسم به من ثراء وشمول، وتنوع وعموم، في مبانيها ومعانيها، وفي أصولها وفنونها، وفي سائر ضروبها وعلومها.

وبناء على ما تقدم أقول: إن بناء االوعى باللغة العربية، واستبقاء مكانتها ورفعة منزلتها إنما يستلزم دوام العمل بها في الأقوال والأفعال والتصرفات، وبيان جمالها في تهذيب السلوك وترقيق الطباع؛ وذلك دفعًا لفحش الكلام، وغشم الحديث، وتجمد الفكر، وتحجر العقول، فما أحوجنا الآن الآن إلى مرونة الحديث، وجمال المنطق، ورقّة الطبع، ولين الكلام في نطاقه، ودفع التشدد في سياقه، وتجنب الفٌرقة والتشتت، وجمع الكلمة، ودوام الألفة، واستبقاء الوحدة وتناقل المودة، فضلًا عن نشر الرحمة العامة بين الناس كافة، قال تعالى: ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ “(سورة الأنبياء، الآية رقم ١٠٧)، من هنا فقد وجبت اليقظة والحكمة في ضرورة تعلم العربية، ونشر ثقافتها في مجال التعليم والتعلم، فضلًا عن بيان أهميتها وعظيم قدرها في المجتمع بأكمله، تعليمًا وتعلمًا، مخاطبة وتحدثًا، معرفة وثقافة، ومن ثم فينعكس أثر المعرفة باللغة العربية وتحصيل علومها على رقّة الطباع بين أهلها، ونشر هذه الرقّة ثقافة معتبرة بين الأوساط المختلفة في المجتمع بأسره، فيتناقل المجتمع جمال الطبع بين أفراده، فتعلو بذلك رقّة الطباع البشرية، ويزكو جمال النفس الإنسانية، وتكون الرقّة عنوانا لتحضر المجتمع ولين جانبه، ولطيف تصرفه، وجميل لسانه، وتقدم أهله، ورفعة علومه وثقافته، ومن ثم فيجب أن ندرك جميعًا أن اللغة العربية هي اللغة المعتبرة – دون غيرها- في البيع والشراء والأخذ والعطاء، وفي التعليم والتعلم، وفي التخاصم والتحاكم، فوجب تحصيلها والإعتزاز بها، معرفة وثقافة، تقديرًا وتعظيمًا، رسالة وتاريخًا.

Related posts

Leave a Comment