رواية ناريا والرمزية

بقلم: محمود سمرة.

قالوا بأن الروائي قد يلجأ إلى الرمزية لأسباب؛ منها أن الرمز أقدر وأرحب في الكشف عن المعنى والرسالة المرسلة دون قيود الصورة النمطية.
في رواية ناريا لجأ حسن الأنواري إلى الرمزية في كل شيء، حتى يُجرد المتلقي من أي شعور غير مضمون الرواية ذاته، وجدنا المكان والزمان، والأشخاص، والقضايا والأحداث، والمشاعر والقيم؛ كلها رمزية، فلا أرض على الحقيقة تُسمى ناريا، ولا شخوص بمثل أسماء أبطال الرواية، حتى عناصر الصراع في الحكاية على سبيل الرمز؛ كظل الإله، والكهنة، والحكماء، وألواح الحكمة الرمزية، فالحكمة لا يمكن أن يتعلمها إنسان؛ بل يستطيع أن يتعلم القانون والقيم، ويطبقهمها، إلا أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يتعلم الحكمة المجردة.
أرض ناريا؛ هي كل أرض قديمًا وحديثًا نبتَ فيها الظلم وترعرع، والكهنة أولئك الذين يتجبرون بتفويض خادع زائف، يزعمون به ملكية صك الوصاية على الأرض بين الناس، والحكماء هم أولئك المناهضون الثائرون الرافعون رايات الحرية والنضال والكرامة، وألواح الحكمة هي تلك الروح الثورية التي يبثها الأحرار في جموع الراكدين تحت وطأة الذل، والصليب هو ذلك الذي يُذبح عنده كل أمل.

هل نتوارث الحكمة؟
سؤال رمزي بديهي وجدناه بين دفتي الرواية، بين أفول شمس الحكمة عند صلب الحكيم الأب، حتى وصلنا إلى بزوغ فجر جديد مع صلب الحكيم الابن، هي الحكمة التي ورثها “نسحو” ابن الحكيم “إيليم”، وجدنا أن الحكمة لا تورث؛ بل نبتة تُغرس وتُرعى وتُثمر، حتى نضجت أماراتها، بأن ضحَّى نسحو بروحه مقابل غرس أبيه الذي سبقه في التضحية والولاء لعقيدته الحُرة.
هي ذاتها أدوات الطغيان وأفكاره؛ الاستحواذ بزعم الوصاية، والبطانة الفاسدة المُعينة على الظلم، وأدوات البطش وطُرقه التي لا تتبدل.

إلا أن رسالة الحكمة القائمة بين تضحية وأخرى قد حققت مُرادها، فـ “لامو” الذي رأى وسمع ذبح الحكيم الأب إيليم، وصمت كمدًا وخوفًا، هو ذاته الذي أشعل فتيل الثورة عند ذبح الحكيم الابن نسحو، ونادى بهلاك الطاغية وأعوانه.
هل تتعارض متعة الدنيا مع حكمة الحرية؟
يبدو أن ألواح الحكمة المرافقة لنسحو تقول ذلك، فقد خرج هاربًا من أرضه، وفارق أرض أخواله، وابتعد ألمًا عن حبيبته “ميرا” التي أجَّل زواجه بها إلى أجل
غير مسمى، وأقام بأرض “بيبلوس” يُعلم أتباعه الحكمة، ثم نوى العودة إلى ناريا، مُخلفًا وراءه كل متعة أو راحة؛ فداءً للحكمة، حتى كان دمه هو الفداء لإيمانه، فلم يهتز حتى اللحظة الأخيرة التي كان بها شرارة الثورة.

هل تكون الحماقة عنوانًا للطغيان؟
طاغية الرواية “ينماخو”، رمز لكل ظالم زعم الوصاية على الرعية، وما كان ليتمادى إلا إذا مهَّد له الأذناب وبرروا له الطغيان، وذراعاه “يلاخي” و”نسرو”، أولهما المتهور الدموي الأحمق علنًا، والثاني يزعم الصبر والذكاء والتروي؛ وكلاهما يُعينه على ظلمه، داخل أرض ناريا، وخارجها والاعتداء على جيرانها.

 

حفلت الرواية بحكايات ومضامين ومغازٍ عِدَّة، سعى خلالها حسن الأنواري أن يبث الرسائل على لسان شخوصه، ممثلًا لكل شخصية بما يعكس للمتلقي دواخلها.

أما من ناحية البناء؛ فاستهل الروائي روايته بمشهد أشبه بالعرض المسرحي؛ لأسر الأذهان ولاستثارة التشويق في عقل المتلقي، وجاء السرد تناوبيًّا، مرتكزًا على ثلاثة محاور؛ رحلة نسحو من ناريا إلى قبائل المنطقة الشمالية حتى بلغ بيبلوس لنشر الحكمة، وأرض ناريا بما فيها من مكائد تُحاك ووعيد للثوار وتوجيهات للحرب على أرض بابل، وأرض المعركة بين الناريين والبابليين.
وأبدع الروائي في بداية وخاتمة الرواية؛ إذ أتى بالمشهد ذاته، بكل تفاصيله، مشهد تكرار صلب وقتل الحكيم على يد ينماخو، بمعاونة يلاخي قائد حرسه، وبحضور الشعب ذاته شاهدًا على مقتل الحكمة على يد الظلم، إلا أن مشهد البداية لصلب الحكيم إيليم قد مرَّ مع دموع الناريين وخضوعهم واستسلامهم، أما مشهد الخاتمة لصلب ابنه الحكيم نسحو، لم يمر كما مر مقتل أبيه، فقد مر مع ثورتهم ونيرانهم، فقد أنارت الحكمة التي علمهم إياها نسحو عقولهم.
الشخصيات الرمزية بأسماءها على غير الحقيقة المعنية، ما بين بطل محوري وهو الحكيم “نسحو”، وشخصيات رئيسية مثل الكاهن “ينماخو”، وأخرى ثانوية مثل الحكيم الأب “إيليم” و”يلاخو” و”نسرو” و”لامو”، وهامشية مثل “ميرا”؛ وغيرهم.
رمز الروائي بشخصياته؛ فأتي بـ “نسحو” حامل راية الثورة والحرية، وأبوه المعلم الأول “إيليم”.
والكاهن “ينماخو” رمز الطغيان، و”يلاخو ونسرو” أعوان لقيام الظلم.
و”لامو وكادي” هم أعوان لنشر الحرية والثورة. و”ميرا” رمز للراحة والمتعة المعتَزَلة.
سرد الروائي روايته بلغة فصيحة التزم بها سردًا وحوارًا.
التزم الروائي بالسرد التناوبي التسلسلي بالترتيب الزمني الطبيعي للأحداث، وضمَّن روايته بنقاط تُثري تلقي النص عند القراء؛ كالفجوات الدرامية التي تركها لخيال القاري؛ مثل مصير الثورة التي اندلعت بعد مقتل “نسحو”، ومصير الحكمة في ناريا، وبعدها ردة فعل البابليين على هجمات الناريين بعد هزيمتهم، وكذلك مصير القبائل الشمالية على يد جيش ينماخو ونسرو، ومصير “ميرا” على وجه التحديد، وهي التي تُمثل رمزًا للدعة والنعيم بعيدًا عن الثورة ومشقتها.
وكذلك التجاوز الزمني والاختصار الذي صنعه في فترة إقامة “نسحو” بأرض بيبلوس.
وعلى نقيض ذلك التوقف الزمني للوصف الدقيق لمشهد الإعدام في بداية وخاتمة الرواية.
بجانب تعدد الصوت الحاصل بلغة الحوار والسرد في الرواية مما يُبعد الرتابة عن ذهن المتلقي.
وأخيرًا وليس آخرًا وإن كنت لا أحاول التفصيل في جميع نقاط الرواية، فقد حملت من الصور والحكاية والمعنى والعناصر ما يتسع له المجال النقدي تحليلًا وتناولًا، إلا أني قد آخذ على الرواية بعض العوزِ في بعض المواطن إلى التمتين اللغوي في تركيب لغة السرد والحوار.

مُتمنيًا للكاتب مزيدًا من الحرية والإبداع لتقديم ما هو نافع في المجال الأدبي السردي، لاستكمال رسالة الروائي المشارك بحمل راية المسؤولية المجتمعية.

Related posts

Leave a Comment