ماهدم نيتشة سوى قلبه ..واللوم لايقع علي نيتشه لأنه أحب مطلقاً.. بل لمحاولته المستميتة في إضفاء فلسفته الخاصة على مشاعره ومشاعر الأخرين .. لقد أراد نيتشة قولبة العشق ، وجعله مقترن بالمعتقد الخاص به .. إن هذا الرجل الذي جُن فالنهاية كان مجنوناً منذ البداية.
ذلك الفيلسوف العظيم صاحب الخيال الممتاز النادر ، والذي سبح فيه لدرجة أنه أخذ يمحو قدسية “جمال النفس ووداعتها ” ، ورحمتها المرتبطة بروح الله ، ليضع مكانها جنون القوة الحسية المرتبط بنفسية الطاغوت ..
فأعتقد نيتشه أنه انتشى وعلا بفلسفته ، ولكن غفل الحقيقة في أنه من داخله يظل إنساناً من طين ولو حمل في رأسه فكر الشياطين ..
فظل يتوهم بعقل الفيلسوف الناضج ، ويسبح في بحر المعنوية وهالتها ، ووضع جل فكره في كفة الفلسفة ، ونسي أن يضع التدبر في “كلمات الله الكونية ” في الكفة الأخرى ، لينصدم يوماً أنه أضعف من ريشة دجاجة كانت على الميزان طارت ، و سبحت في عوالم لم تعد لها عدة ولم تحسب لها حساب ..
فبأول اختبار حقيقي لقلبه الذي الذي عزله نيتشه عنوة قد أنزل عقله من التحليق في سماء الفكر المنطقي ليسقطه كأي عقل خاوي في جسد ترابي ..
لقد رأى فريدريك حياته في شخص “لو سالومي” وأنها مصدر السعادة وحدها .. وكأنه لا يرى معنى لاسمها سوى بلسان عربي فأتخيله بعد إدعاء أن القوة رأس الفضائل ، والأخلاق ، والحكمة قام يقول:
“حياتي لن تكون (لو) سالوميه ليست فيها ”
كان يعشقها ولكنه لم يكتفي بذلك بل أراد منها أن تنصر اعتقاده الفلسفي في الحياة ..
بالفعل حاولت “لوسالوميه ” نصر ذلك ، لكنها فجأة ارتاعت منه ، ومن فلسفته ، وعاصفة القوة المفرطة فيها التي تدمر كل أمان وأيُّ حنان ..
نعم من الطبيعي أن تتحمل الأنثى الرقيقة جزء من قوة الرجل ، وتكون قطة مطيعة دون أن يخل ذلك بكونها ملكة !!
وهذا ماوجدته “لو سالومي” في إتزان الموسيقار “فاجنر” وإدراكه أن الأنثى تتفق عقليا في الحب والإدراك مع الرجال .. وتختلف عنهم عاطفيا ونفسيا وفسيولوجيا في الحب والإدراك !!!
فمالت له لأنها أنثى كاملة طبيعية تحركها عواطفها مهما كان عقلها واعي ، ومهما أعجبت بالفكر الغريب لنيتشة فإنه لايجوز لها أن تهوي أرضاً وهي تحمل بين أضلعها حياة ، وقلب ، ومشاعر في براثن فكر سادي مضطرب عن الحد ولو كان يعشق بكل صدق ..
وبالفعل كانت في النهاية بين أحضان “فاجنر” تعيش معزوفة حب “عنيفة غير مستعبدة” خاصة بها تشعرها بروح الحياة .. ثم من “فاجنر” إلى “بول رى” صديق “نيتشة” .. ثم منكوب أخر مات منتحرا .. وكأنها كانت تنتقم من حب فلسفة “نيتشة” !! ، وما ربح نيتشة من حياته واعتقاده الفلسفي الغاشم إلا اللوم على فاجنر وطول الشارب .
بل أعلم عزيزي القاريء أن الحياة مقياس حقيقتها هو” الألم ” وليس القوة .. نعم ألم الشعور بالناس ، وألم الحب الذي فطر الله الناس عليه ليرحموا بعضهم البعض ذلك الألم ، وذلك الحب الذي يقتلع أعمدة بهو المجتمع وزينته وتكبره ، ومعتقداته الغير سوية ، ويجردها من معانيها الباطلة ليظهر طبيعتها الأولى الأصلية ..
يجب أن تدرك أن “الشر” في كل نفس مهما كانت تحب حقا ، أو تدعي الحب .. وأنه لايهذب النفس وحبها، وقوتها سوى “ضميرها” الذي هو منحة خالقها وهديته لعيش متوازن نقي على تلك البسيطة ..
ولتعلم أن ‘حب التملك’ هو ” تؤم الشعلة” ‘للكبر’ والوجه المستتر له ، وهما “أصل الشرور” .. إن أطلاقناهم في سماء حياتنا وأخذنا نستمتع بهم ، فإننا كمن يطلق الرصاص عشوائياً ، ويستمتع وهو يُسقط كل حر له حق في تلك الحياة ثم يقوم ليضرب أصابع قدمه من باب الخطأ ..
وهذا ما أدركه أحد أرق ، وأعزب “رسل الأدب” العظماء بعد حياة متعفنة قامت تضرب أسوارها حول روحه بحجارة الشهوات .. لكن الرجل كان لا يزال بداخله موضع للبنة من السماء ، ما أن إكتشفها وهم بوضعها في مكانها حتى سقطت حجارة الشر من طلقاء نفسها منسوفة نسفا ،” كانت تلك اللبنة هي (منح الحب دون مقابل) ..
إنه “العطاء ” و العيش للغير في أبهى صوره .. فلا تتنازل عن البحث عن تلك اللبنة داخلك لتكون عظيماً مثل ” تولستوى” الأديب الإنسان ..
فانمو كشجرة تفاح أزلية مثمرة أبدية في غابة حرة بعيدة ، ولا تنمو في بستان الغير ..
فإن وقعت ثمارك في أرضك ابتعلتها .. أما إن أثمرت في أرض غيرك فلا تلومن الأغراب إن أخذوا في جني ثمارك .
كتب أحمد البياسي .