كتب / رضا محمد حنه
محرر و كاتب
كثيرا ما يقول شخص لشخص آخر
( انت عمري ) أو ( يا عمري )
دون أن نسأل أنفسنا و لو لمرة واحدة
ما حقيقة العمر الذي يعيشه الإنسان؟
وكيف ينتهي؟
وهل هو محدَّد في انتِهائِهِ؟
و هل إذا قُتِلَ الإنسان هل يموت بأجله ؟
دعونا نتفق أولاً
ان كلّنا يعلم أنَّ النقطة إذا تحرَّكَت رسَمَتْ خطًّا، والخطّ إذا تحرَّك رسم سَطحًا، والسَّطح إذا تحرَّك رسمَ حجمًا، والحجم إذا تحرَّك شكَّل زمنًا،
لذلك الزَّمن هو البُعْد الرابع للأشياء، والزَّمن مُتعلِّق بالحركة، والإنسان في حقيقته زمنٌ
( اه والله زمبؤلك كده )
لأنَّه يتحرَّك إلى نقطة ثابتة، والأيام تمضي ؛ والأسابيع والأشهر والسنوات، ثم يجيء الأجل وينتهي العمر، فالإنسان في حقيقته زمن، والله عز وجل يقول: ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) ( العصر)
ما هي خسارته ؟
إنَّ مضيُّ الزَّمن يستهلك الإنسان، فالإنسان أحياناً يتوهَّم أنَّه صَغرت سِنُّه إذا عدَّ عمرهُ عدًّا تصاعدِيًّا،
يقول : كبرتْ سِنِّي، أما إذا عدَّ عمرهُ عدًّا تنازليًّا، يقول: كم بَقِيَ لي؟
الإنسان إذا سأل هذا السؤال وقَع في حرجٍ، هل بقيَ بِقدْر ما مضى؟!
إذا كان الذي مضى مضى كلَمْح البصَر فالذي بقي إذا كان أقلّ مِمَّا مضى سيَمضي بأقلّ مِن لمْح البصر، ثمّ يفاجأ الإنسان انَّه أمام عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ، فالعُمر هو ظرف العمل، فعملك الصالح أو السيئ له ظرفٌ هو العمر
وربنا عز وجل قال : ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) فاطر: 37
فالله عز وجل أعطى لنا العمر المناسب، لأنَّ موت الإنسان أخطر حَدَثٍ في حياته، لأنّه انتقال كُلِّي مِن دارٍ إلى دار، وخَتْمُ العمل، وإغلاق باب العمل، لا يوم وِلادته، ولا يوم زواجه، والدليل قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) الملك: 2
بدأ بالموت، وهو تقديم أهمِيَّة، ففي البدايات هناك خِيارات عديدة جدًّا أما هو الذي خلق الموت والحياة، فالموت مُحدَّد والأجل محدَّد، قال تعالى: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ) الأعراف: 34
ومـع أنـَّهُ محدَّد هو أنسـب عمرٍ للإنـسان، إذا كُشِفَ الغطاء يـوم القيامـة عن حكمة العمر الذي عاشه الإنسـان لا يملك إلا أن نقول: الحمد لله رب العالمين، لأنَّ كلّ شيءٍ وقع أراده الله، وكلّ ما أراده الله وقَع، فهل يقعُ الموت من دون إرادة الله؟!
حتى القاتل إذا قتل إنسانًا، هذا الإنسان منوطٌ بأجله، و هناك مثالاً عن بستان فى مكان ما، زُرِعَ فيه أشجار تُفاح، الشَّجرة الخامسة، في الفرع الثالث، في الغصن كذا، التفاحة الخامسة هي لِفلان !!
أما فلان من الناس باخْتِياره أن يُحدِّد طريقة وُصول هذه التُّفاحة إليه، فـقد يشتريها بِماله، وقد يسرقها وهي له، وقد يأكلها ضِيافةً وهي له، وقد يتسوَّلها وهي له، فهذه كلّها طرق، وهي له، وكذا الموت مُحَدَّد، فقد يموت على فراشه، وقد يموت قتلاً، وقد يموت بمَرضٍ، وقد يموت بحادِث، والنُّقطة الدقيقة أنَّ الأسباب تتعدد ، ولكنَّ الموت واحدٌ !
العبرة بمضمون عمر الإنسان لا بطوله أو قصره : في التاريخ الإسلامي نجد علماء كباراً تركوا آثاراً مذهلة، وعاشوا أقلّ من خمسين عامًا كالإمام النَّووي رحمه الله تعالى، وهناك قادة فتحوا آسيا وعاشوا أقلّ من ثلاثين عامًا، وهناك أعمار تافهة كأن يعيش ثمانين سنة من دون عمل صالح، وأوضح مثل يُوضِّح العمر، دُكان فتحَ بِساعة باع بألاف الجنيهات ، ودُكان آخر بعشر ساعات باع مائة جنية !
فالعِبرة بِمَضمون هذا العمر، ولذلك الله عز وجل في آية وحيدة أقْسم بِعُمر النبي عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الحجر : 72
لأنَّ عمر النبي علـيه الصلاة والسلام ثمين، فهو في مدَّة يسيرة قلب وجه الأرض، ورسَّخ التوحيد في الأرض، والفضيلة والسعادة والقِيَم، فإيـّاك أن تقيس العمر زمنِيًّا فهو لا قيمة له إطلاقًا، ورد في بعض الأدعِيَة: ” لا بورِكَ لي في طلوع شمس يوم لم أزْدَد فيه قربًا إلى الله تعالى، ولا علمًا” حتى لو أمْضَيتَ عمرك في المباحات فأنت في خسارة، لأنّ مُضيّ الزَّمَن يستهلك الإنسان، قال تعالى: ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) العصر: 1-3
قال الحسن البصري: ” ما من يوم ينشقّ فجره إلا ويُنادي يا بن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوَّد مِنِّي فإني لا أعود إلى يوم القيامة” وعقارب الزَّمن لا يمكن أن ترجع ! فأنت بين يوم مضى، والحديث عنه لا جدوى، وبين يوم سيأتي لا تملكُهُ، جلسْ أحد العلماء بارك الله فى عمره مع رجل في المدرسة فحدَّثه عن خِطَّته لِعِشرين سنة قادمة، أنَّه سيذهب إلى بلد ما ويُدَرِّس هناك خمس سنوات، ويطَّلع على معالم البلد، ويزور أوربا، ويعود بعدها إلى بلده ليفتحُ محلاًّ ويكبر أولاده ويتقاعد، انتهى اللِّقاء وعُادْ العالم الجليل إلى البيت، ثم عُادْ مساءً إلى عمله في المدينة، وهو في طريق العودة إلى البيت سمع نعى هذا الشاب في اليوم نفسه !! لذا قالوا: من عدَّ غداً من أجله فقد أساء صُحبة الموت ! !!
فالأجل مُحَدَّد، وإخفاؤُهُ عنَّا لِحِكمة بالغة ! قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) آل عمران: 102
الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل : وهذه الآية تُحيِّر، فهل الموت بأيدينا حتَّى تنهانا عن أن نموت؟!
العلماء قالوا: لا يأتيكم الموت إلا وأنتم مسلمون، بالضَّبط كما لو كانت عندك رحلة سفر إلى أمريكا، والبطاقة بكام ألف جنية، فإذا لم تُسافر على هذه الطائرة تخسر ثمن هذه البطاقة مثلا، فإذا قلت: متى موعد السَّفر ؟
يقولون لك: نحن نأتيك صباحًا الساعة كذا ولا ننتظر إلا دقيقة واحدة، فيجب أن يأتيك الموت وأنت مسلم وتائب ومُطَبِّق، أحد الأشخاص كان له مطعم يبيع الخمر فيه، تاب إلى الله فقلَّ ايراده فرجع إلى ما كان، وبعد اثني عشر يومًا وافَتْهُ المنيَّة وهو يبيع الخمر!! ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون ! أحد الناس أصيب بِجلطة وهو في فراش الموت قال: آتوني بِمُسجِّلة فسجَّل كلامه قائلاً: الممتلكات التي لي اغتصَبتها من أخوتي ! وبعد أسبوع عاد إلى حالته وكأن شيئاً لم يكن، فطلب الشريط وكسَّرهُ !! وبعد ثمانية أشهر وافتْهُ المنِيَّة، لذا راقب نفسك وأهلك، هل الزوجة و بناتك ملتزمات ؟
هل أولادك يُصلُّون ؟
هل الدَّخل حلال ؟
قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ المؤمنون: 99-100
الإنسان بين خمسة أيام : نحن الآن في سعة، والقلب ينبض، وتؤدِّي زكاة مالك، وتؤدِّي الحقوق التي عليك، اغتصَبت مال احد ، هذا كلّه محاسب عليه فانْتَبِه وأدِّ ما عليك لأنَّ العمر محدود، ولا يوجد تأخير، فالمقتول يموت بِأجله والقاتل يُحاسب كَقاتِل، هكذا عقيدة أهل السنة، لذا أنت بين خمسة أيام ؛ يوم مفقود، ويوم مشهود، ويوم مورود، ويوم موعود، ويوم ممدود، فالمفقود هو الماضي، والمشهود الحاضر، والمورود الموت، والموعود يوم القيامة، والممدود إما في جنَّة إلى أبد الآبدين، وإما في نار إلى أبد الآبدين، وأخطر هذه الأيام هو اليوم المشهود الذي تشهدهُ، لا تقل: سوف ! أدِّ الذي عليك في الحاضر، ولا تُسوِّف، فلا تمت وأنت متلبّس بِمَعصية، والإنسان كيف أمضى عمره يجعل طريقة موته تلخيصًا لِعُمره كلِّه، لذلك قالوا: صنائع المعروف تقي مصارع السوء.
بارك الله فيكم و في أعماركم