بقلم / هاشم محمود
تضع أصابعها في أذنيها، تصرخ بعلو صوتها، لا تريد سماع هذا الصوت: فلتحترق أيدي الجميع، كفوا عن هذا الصوت .. لا أريد سماعه.
شلال من الحزن، وجه شاحب، نفس منهكة، أيادي مرتعشة، جرح لم يلتأم بعد، مرارة حلق ممتلىء بخيبات لا آخر لها، ليل حاضر طويل لا نهار له، لحظات من الإرتباك ورائحة دم تطاردها، وحيدة تلك الفتاة رغم أخويها اللذان يصغرونها ووالدتها صاحبة السمعة الطيبة التي تقوم بتغسيل الموتى، ووالدها الذي يملك ثروة كبيرة من تربية المواشي.
خديجة فتاة ذات جمال فائق يبصره الأعمى رغم كونها تتوارى دائما عن الأنظار، يطلق عليها الشباب “درة القرية”، فهي طويلة القامة ممتلئة القوام، قمحية اللون، عرفت بعطرها الآخاذ الذي يميزها عن فتيات القرية.
يلتقي رمضان بخديجة خلال سفره برفقة شقيقته سامية للتقديم لإحدى الجامعات السودانية، يلقي عليها التحية بعد أن قامت شقيقته بتقديمها له، يرمقها بنظرة إعجاب وإندهاش بجمالها لكنها لا تبالي، ولم تهتم لأمره، فهي تتسامر مع صديقتها ولا يشغلها وجوده من عدمة كما كانت تعامله بإعتباره أخا أكبر لها مثل صديقتها سامية.
يوم شاق وطويل لكن تم إنجاز المهام المطلوبة، يستقلون سيارة حتى قريتهم، ثم يسيرون مشيا على الأقدام حتى منازلهم، الفتيات يودعن بعضهم البعض، رمضان واقف بانتظار شقيقته على بعد امتار، متكئ علئ عصاه بيده اليمني ويفرك شاربه بيده اليسري شبه شارد إلا انه يراقب تحركات البنات، يستفسر من شقيقته عن صديقتها، والدته تستمع لحديثهما بينما كانت بدورة المياة بالجانب الشمالي للمنزل.
رمضان تخرج في كلية الزراعة بأعرق الجامعات السودانية، كلفته الدراسة الابتعاد قليلا عن قريته ام بروش الواقعة بشرق السودان ضمن حدود ولاية القضارف والتي بنيت من القش والحطب إلا من بعض البناء مثل قسم الشرطة الذي يقع بالمدخل الشرقي للقرية، طريق رئيسي يقسم القرية الي قسمين شمالي وجنوبي، يتوسطه سوق، الجانب الجنوبي به العيادة ذات البناء الحديث وسكن الطبيب وكذلك المدرستين الابتدائين بنين وبنات بنهاية الجهة الجنوبية وكذلك سكن المعلمين والمعلمات خلف تلة تعج بالسكان، أما الناحية الشمالية بها تلة اخرى وبناءها بدائي وليس بها إلا المسجد الذي بني حديثا بدعم من احد الكويتين.
لم يفكر يوما في أمر زواجه لكن اليوم مع ربيع مارس ١٩٩٢، شعر أن الوقت قد حان بعد أن وجد ضالته في تلك الفتاة الجميلة، التي كان الجميع يتخوف من التقدم لخطبتها قلقا من ردة فعل والدها الذي يحب مجالس العلم، فهي ليست مجرد إبنته الكبرى بل هي صديقته وأخته، فلن يرضى لها بأي رجل.
سامية تكشف السر لخديجة التي يحمر وجهها خجلًا، فصداقتهما ستدوم إلى الأبد عندما تنضم لعائلتها، بعد أن فازت بقلب شقيقها الذي سكنت وتربعت بداخله.
سعادة غير مكتملة، فرح مقترن بهدوء قاتل، لم تفهمه سامية ولم تبح به خديجة، لكن الحقيقة الوحيدة المؤكدة أن لاشيء تخفيه خديجة خلف قلبها، فهي كتاب مفتوح لصديقة طفولتها، وقد تمنت شقيق صديقتها كما تمناها.
تسجل أسرة رمضان زيارة لأسرة العروس التي تبلغ من العمر 18 عاما، ترحيب كبير وكرم ضيافة، إتفاق مبدئي بين الأسرتين، العائلتان تتفقان علي الخطوط العريضة وتتم الخطبة ويحدد موعد الزفاف، رمضان يفصل ثياب الفرح برفقة صديقة “جلابية بيضاء وسديري أسود وعمة مطرزة بألوان زاهية”.
الشباب ينصبون خيمة كبيرة وآخرون يجلبون الماء والحطب، والنساء يجهزن الطعام بينما الضيوف يحضرون من مختلف المناطق مساء الخميس، يحضر المأذون، ويصمت الجميع حتى يكتب الكتاب، يخرج محمود الشرطي مسدسا ويطلق ثلاثة رصاصات في الهواء ليعلن إنتهاء مراسم العقد، لتعلوا اصوات الزغاريد.
توزع الحلوي والكيكة والبخور حول الخيمة، الحضور يجتمعون بحلقة دائرية، سيوف يتراقص بها شباب في منتصف العمر، بينما الدلوكة تسخن الأجواء الداخلية لمنزل العروس، فتيات يتراقصن في حلقة دائرية على أنغام أغاني تراثية، يزغردن بمتواليات متقطعة.
خديجة تبكي، لا تفهم والدتها ما ألم بها، فلم يجبرها أحد على الزواج، فلماذا تصرخ الآن؟ ولماذا لا تريد سماع شيء؟، لماذا يؤرقها صوت الدلوكة والطبول؟ كيف ذلك وهي من مكثت في المنزل قرابة شهر للإستعداد لهذا اليوم، لتكون في أوج وأبهج صورتها؟!
طوفان من التساؤلات، وأجوبة لامعنى لها، ثرثرة لا استقامة بها، مرارة وإرث لا مفر منه، لا أحد يفهم ما يحدث لتلك الفتاة، هل تكتفي الأسرة بهذا القدر وتنهي مراسم الزفاف سريعا أم تؤجل إرسال العروس إلى منزل زوجها حتى معرفة ما يحدث لفتاتهم.
صوت “الدلوكة” يعلو وخديجة تصرخ في وجه الجميع وهي التي لم يكن يسمع لها صوتا، لا تريد أن تسمع هذا الصوت، حزن يطفىء نور وجهها، وكأن حربا تدور في رأسها، ولا أحد يبصرها غيرها، حيرة لا يفهمها أحد.
تسارع سامية بتهدأتها وتستأذن والدتها في أن تتركهما وحدهما، لتستحلفها أن تهدأ وأن تقص عليها الحقيقة وما ألم بها، فهي أقرب صديقاتها وليس لهما سوى بعضهما، فكيف لها أن تخفي سرا عليها وهي أحق الناس بالوقوف جانبها.
تمطرها سامية بوابل من الأسئلة، فقد تكون تسرعت بالموافقة على الزواج بشقيقها فقد لا تجده الشخص المناسب أم أنها لم تكن ترغب في الزواج قبل إنهاء المرحلة الجامعية، أم أنها في كارثة لم يعلم أحد بها واليوم عليها أن تبوح بها، لتقسم خديجة على حبها لرمضان وتقديرها له وأنها أبدا لم تخن العهد أو ثقة والديها بها، لكن الحزن يفطر قلبها.
حاولت سامية أن تعرف شيئا، فهي تحب صديقتها لكن ليس لها سوى أخيها، وترجو ألا ينفطر قلبه أو يصاب بالخيبة، لكن محاولاتها باءت بالفشل وذلك لا ينفي موافقة خديجة على الزواج وترحيبها به لكن لم يمنع ذلك سامية من الذهاب لأخيها والحديث معه عما يدور.
برر رمضان ذلك برهبتها من الزواج وخوض تجربة جديدة بعيدة عن منزل أسرتها وكون الأمر لا يتعدى مجرد قلق طبيعي تمر به أي فتاة، لكن حزن وبكاء خديجة لم يتوقف، فحاولت سامية أن تقتنص فرصة انشغال والدة العروس بالحضور لتأخذ شقيقها إليها لكنه رفض بشكل قاطع مصرا على ضرورة أن تتركها لتخرج ما بداخلها كي تهدأ.
يزحف الجميع نحو منزل العريس لإكمال ترتيبات استقبال الضيوف وبعدها بساعات قلائل قافلة نسائية راجلة أمامها شباب يحملون فوانيس يضيؤون بها الطريق وثوب ابيض يخفي بداخلة خديجة ورفيقاتها، يزفون العروس إلي منزلها ومعها ثلاثة بقرات وعشر مِن الاغنام وأربعة اوقية من الذهب هدايا الأهل والأحباب، بينما رمضان في استقبالهم خارج المنزل ليأخذ عروسه حيث منزلها الجديد بعد أن يغادر ضيوفه.
عطرها يتسلل إليه، يطرب لها، يبتهج لرؤيتها، يأخذ بيديها، يجلسها بجواره، يطمئنها، يتحدث إليها، يستمع لها، تفاجئه بحزنها المميت لكونها فتاة وليست رجلا، تتساءل عن الضريبة التي يجب أن تتدفعها النساء في إفريقيا، لايفهم ما تقصد، لتسارعه البكاء معربة كرهها ل “الدلوكة”.
تكشف خديجة غموض ليلتلها وسط أمطار دموعها، بأنها لم ولن تكون سلعة تباع لأحد، فلن تنسى ما فعلته بها والدتها وهي في العاشرة من عمرها بعد أن أصرت بالاتفاق مع والداها على ختانها تحت مظلة الشرف فتكبح شهواتها وتمنع من الإنزلاق في الخطيئة، تلك اللحظة الفارقة في حياتها في ذات الوقت التي كانت تسمع فيه صوت الدلوكة وهي بين يدي إحدي السيدات بالخارج وكأنها تبكي حال النساء، ألم لا يوصف، قلب لم يتوقف عن الحزن، جسد ينتفض قهرا وظلما، وصوت دلوكة عالق لا يصمت.
يعانقها رمضان .. هنا فهم بكائها، أدرك ما تصبو إليه تلك الجميلة، وما يدور في حقيبة رأسها.. يخبرها أنها ليست وحدها من تعاني هذا الألم فلم ينس واقعة شقيقته ساميه والتي كادت أن تفارق الحياة لكن الله كان رحيما بها وبأسرتهم.
يخبرها أن ما تعرضت له لم يكن مفاجئا بالنسبة له، خاصة وهم أبناء لأسر لم تحظ بقدر كاف من التعليم، فليس والدها أو والده مهندس أو طبيب، كما لم يفارق أحد منهم تلك القرية الفقيرة، فلازالت طقوسهم وعاداتهم وتقاليدهم تطبع على قلوبهم الغشاوة، فما تعرضوا له من إيذاء على أيديهم لم يكن عن قصد أو تعمد على الإطلاق لكنه جراء الجهل والموروثات الخاطئة، لكن ذلك هو دورهم مع أبنائهم في المستقبل القريب، في تجنب ماضيهم المؤلم دون تكراره أو السير على خطاه، فهذا هو دور العلم.
يطمئنها أن لا فرق بينهما ولا أحد أعلى مرتبة من الآخر، كل يسعى لسعادة الآخر دون أن يسطو على حقه في مساحتة الخاصة، كل يسعى لمستقبل افضل خال من الألم والحزن في ظل أسرة متعلمة تدرك الخطأ من الصواب، فلا خصومة مع الدلوكة، فهي تراثهم الأصيل .. ولا ألم بعد اليوم، سيعلو صوت الدلوكة لتلين صلابة الحزن، ويبعث الأمل من جديد لأيادي ملتصقة في طريق ممتد من السعادة.