يدعوك الثنائي كمال بلطرش وزوجته ماريا إلتسوفا لتشاركهما سفرهما الممتع في تاريخ الجزائر وتراثها المتفرد والثري عبر لوحاتهما الفنية الجميلة التي يعرضانها بالمركز الثقافي الفرنسي بالعاصمة، في معرض ثنائي يمتد من12 ماي وإلى 12 جوان كمرحلة أولى يعرض فيها الفنانان الجزء الأول من ابداعاتهما الفنية، ليتركا شغفا عند المتلقي لاكتشاف الجزء الثاني من المعرض ابتداء من13 جوان وحتى 12 جويلية.
“لنسافرْ معا في حنايا الحُلْم”
كمال بلطرش يدعونا لاكتشاف حكايات الروح والوطن
ويعرض عليك الفنان والسينوغراف المعروف كمال بلطرش أن ترافقه في اكتشاف حقيقة الحياة لكن بعيون أخرى تتقن لغة العمق والروح، حيث ستسافر عبر الألوان التي تحيِّيك ألغازها في جمال وهي تدعوك لاكتشاف سرِّها رويدا رويدا، بل وتسحبك معها في نزهة روحية عبر معان عميقة جسدها الفنان على لوحات حسناء، إذ يقول معبِّرا عن عمله في هذا المعرض: ” كتبت قصيدتي الصامتة التي عدد فصولها أكثر من ثلاثين لوحة ستعرض على مرحلتين، وأردت أن يشاركني الآخرون حلمي من خلال هذا المعرض ولهذا لم أضع عناوينا للوحات”.
ففي عاصفة الألوان التي تمسح أفق اللوحة الأولى، يبدو ثلاثة أشخاص يلبسون حياتهم ويغرقون في دوامة من الألوان، حيث نشاهد شخصا في أعلى اللوحة يرفع رأسه كأنه يلقي نظرة شاملة عن الحياة، كونه يقود مجموعته المكونة من شخصين آخرين ويضمن لهما حماية من خلال معرفته الواسعة بالمحيط والموجودين فيه، فالمعرفة تضمن الحماية، بينما يظهر الشخص الثاني خافضا لرأسه في أمان بعدما أسند أمر حمايته لقائد مجموعته الذي يمكن أن يكون أبا أو أخا أكبرا أو حتى حكيم قبيلة، غير أن الشخص الثالث نراه يغمس رأسه باطمئنان في بحر من الألوان مستمتعا بأحلام حياته وهو يتهيأ كي يعيشها حقيقة، لأنه يقال بمجرد أن تعيش أحلامك كأنها حقيقة ذلك يجعلها تتحقق على أرض الواقع.
وفي اللوحة الثانية تجتمع ألوان مبهجة على فستان امرأة فاتنة الجمال وهي ترمز لجمال الحياة ولألوان الفرح التي تواطأت مع الشمس لتصنع من مشهد هذه الحسناء صورة نفس مستمتعة بلحاظاتها، حيث اصطفت الألوان في الجانب الأيمن من مكان الحسناء وهي تشاركها رقصة الفرح في انسجام كبير تاركة جزأها الأيسر لألوان الشمس والضياء، كي تبرهن للجميع بأن تركيز النظر على ألوان الحياة المبهجة سيسمح لنورك بالظهور للآخرين، بينما تنضمُّ الألوان في اللوحة التي تليها إلى ثياب المرأةـــــ الأم ـــــ الحب ـــــــ الحياة، معنى الفرح والوجود، لتقرأ على مسامع الروح أغنيات فجر جديد، فالمرأة هي المنبع لأنها تحتضن الحياة وتربيها بين يديها وفيها كل الألوان وعنها تصدر جميع معزوفات الفرح.
ألوان مبهجة تروي حكاية تفاؤل وإشراق
ونرى أن الفنان قد نثر على لوحاته أجزاء من الطبيعة والوجود، حيث تموج سماء اللوحة الرابعة بقطع من السماء ومن الهواء وألوان الشمس، لتشكِّل منها فسيفساء نفس حكيمة تغرق في تفاصيل حاضرها بكثير من الأمان، مدركة أن البهجة كلها تختزل في اللحظة الحاضرة، أي في الآن التي هي كل ما نملك، ولهذا فلا داعي لاستعادة ذكريات تنغص علينا فرحنا الحاضر لأن ما مضى قد مضى كما يقول المثل: ” اللي فات مات”، كما أن الاغتمام باللحظة القادمة هو ضرب من الانتحار لأنها في علم الغيب.
المعرض رسالة سلام وتفاؤل يبلِّغها للعالمين
وفي لوحة أخرى نلاحظ شخصية حالمة تتداخل مع ألوانها لتغوص في إشراقة للروح، حين تغمر عالمها المادي في انسجام خرافي يعيدها إلى تشكيلها الأول، إلى الرقي، إلى السماء، إلى العلو، فتترفَّع عن الحزن وعن الغضب وعن معاقبة الآخرين بأحكام جائرة لأنها لم تطَّلع على القصة الكاملة لكل واحد منهم، وكما يقال: ” إذا عُرف السبب بطل العجب”.
ويعيدنا الفنان إلى التوازن الذي لابد منه من خلال اللوحة السادسة، حين تستعيد النفس البشرية مظهرها من عاصفة الألوان بعدما امتزجت روحها بها، لتُقدِّم واقعا أجمل يطفو على سطح العيون وتتشرَّبه الأحاسيس المرهفة، لتكون القدوة والمعلم وحاملة راية السلام لكل العالم.
ولأن المبدع يهوى الصمت ودفء الوحدة أحيانا كي يخرج أفضل ما لديه، نجد أن الفنان يجسد هذا المعنى على لوحته الموالية حين يحلو للمرء أن يختلي بنفسه كي يعيد ترتيبها ويستجمع حكمة من خبراته السابقة فينقلها للعالم، وتقول الحكمة إن الوثوق لا يليق إلا بصديق، ولا صديق أفضل من حصان يحبك بصدق ويخلص لك بدون مقابل وتضمن وفاءه بدون شروط كما في اللوحة الثامنة، أما في اللوحة التي تليها، فتبدي لنا الألوان الرقراقة مرآة الحياة والوجود في أدق تفاصيلهما، بما تحمله من تفاؤل وثقة في الآتي مهما بدت الأيام حالكة، كزورق نجاة يقود إلى بلاد الأحلام، إلى حياة أجمل، فيصبح المرء وصديقه المخلص الحصان كما في اللوحة العاشرة على نفس تفاصيل الروح التي تظهر في شكل ألوان منيرة تتقاسم جوهرة الحب والإخلاص اللامشروط، فتنجو الأماني من الغرق في بحر الظروف، وبذلك تتمكن صرخة البقاء كما في اللوحة الحادية عشر، من التغلب على أصعب الظروف كما حدث في زمن الوباء، لتبتسم شمس الوجود من جديد في وجوه صامدة لا تعترف بالمستحيل.
ويقول الفنان بأنه ختم معرضه بلوحة تختصر معاناة العالم من جائحة كورونا، حيث انتصر البقاء على الفناء، ونجح التفاؤل والنظر بأمل في التغلب على كل ألم ووداع أبدي، إذ يعتبر معرضه بمثابة رسالة سلام وتفاؤل يبلغها للعالمين، لأن الفنان يحمل مرآة شفافة تتحسس جوانب الحياة اللامرئية.
جميلة ميهوبي.
أبهرتها طبيعة الجزائر الساحرة وتراثها الثري
ماريا إلستوفا فنانة روسية بقلب جزائري
تشارك الفنانة الروسية ماريا إلستوفا الجزائريَّ احتفاءه بتاريخه المجيد وتراثه الثري، عبر لوحات فنية مبهرة تغوص في عمق تراثنا الجزائري العريق، حيث تسمح للمتلقي بأن يستمع لأهازيج الفرح المنبعثة من النغمات العذبة لآلات موسيقية ضاربة في التاريخ وهي تروي حكاية الأرض التي تحتفي بالأنثى، بالمرأة الصحراوية الملكة، كما تصفها الفنانة، حيث تقول بأن المرأة الصحراوية ملكة في مجتمعها لها كلمتها المسموعة ولها حق اتخاذ القرارات الحكيمة حتى في غياب زوجها، لأنه يثق في رجاحة عقلها التي ورثتها عن الآباء والأجداد واكتسبتها من محيط قاس يعلّم الحكمة والهدوء والتروِّي في كل شيء، ففي اللوحات تظهر نساء في يوم الاحتفال بانتصار أزواجهن، والرجال يرقصون على أنغامهن، وهن يستعملن آلة إمزاد IMZAD وهي آلة من صنع النساء ولا يسمح لسواهن بالعزف عليها لأنها تعتبر آلة أنثوية بامتياز، والأنثى عادة هي مَنْ تحفظ العادات والتقاليد وتربي الأولاد وتنقل إليهم القيم، وتبلغ رسالة البهجة للجميع، بدء من عالم الرحم ووصولا إلى عالم مرئي تشكله ألوان ثيابهن البديعة وهي تتغنى بتنوع ثقافة الجزائري حين يفتح يديه للجميع ويرحب بكل القادمين، بضيوف من كل الأجناس، لأنه دأبه الكرم وحسن الضيافة والسخاء المتجذر فيه منذ الأزل.
بينما تبهرنا لوحة أخرى تتربع عليها حسناء أمازيغية بزيِّها التقليدي الجميل وحُليِّها الفضي المزركش وهي تتحف العيون بألوان السماء والضياء مغترفة حسنها من زرقة البحر والسماء، وبياضها من إشراقة قمر في ليلة ظلماء لا تخفي لون العشب الأخضر الذي يحيط بها من كل جانب، حيث ترمز اللوحة إلى معاني الحياة التي لن تزدهر إلا بقلب مشع بالجمال المتمثل في عشب أخضر، وبصفاء قلب ونوايا تختزلها ألوان ثيابها والحلي الأزرق، كما يعبِّر البياض الكامن في زرركشات لباسها وحُليِّها عن الإيمان الذي بدونه لا يستطيع المرء أن يسير بأمان في هذه الحياة، فالإيمان هو الثقة في الحماية، في النصر وفي تحقيق الأهداف، كما أن في الصفاء انعكاس للحب ولبهجة نتشاركها مع من نحب من أهل وأصدقاء وغيرهم من طبيعة وحيوانات.
راية أمل وتسليم ترفعها اللوحات بكل حب
بينما تكتسح لوحة أخرى ملامح رجل تارقي طاعن في السن، عالج تجارب الحياة، ما جعله ينظر إليها وإلى ما حوله بعيون مستبصرة تفيض حكمة وسماحة ورحمة، لأن من عرف حقيقة الحياة تعرَّف إلى بهجتها الحقيقية التي لن تكون مصحوبة إلا بقلب هادئ ونفس راضية لا تحمل ضغينة على أحد، بينما تدعونا عيون خضراء جذابة تتألق من لوحة مجاورة، إلى الغوص في عمقها وهي تروي حكايات أمجادنا من خلال حسناء باهرة الجمال قد هزمت الجنرالات بحنكتها ودافعت عن شرف بلدها بكل عزة، ففي تلك الملامح التي تمتد على فضاء اللوحة، تقرأ حضور الملكة تينهينان والملكة الكاهنة وكذلك البطلة لالا فاطمة نسومر ومن جاءت بعدهن من جميلات الجزائر وعلى رأسهن المجاهدة جميلة بوحيرد، والشهيدات حسيبة بن بوعلي ووريدة مداد ومريم بوعتورة وغيرهن، اللائي كتبن تاريخ العزة بمداد من نور، كما تهمس الفنانة في أذن المتلقي بكلمات عميقة عبر لوحاتها الخلابة عن صحرائنا الشاسعة وهي تخفي سرها العميق، ولا يتعرَّف إليه إلا من أوغل في اكتشاف أسرارها العامرة بصمتها المطبق في المحيط والأشياء، ولهذا فقد أخذت من اللون البنفسجي الذي لونت به فضاء ووشاح رجل تارقي مغرق في صمته، توحي نظراته الحنونة بالكثير، في أول لوحة رسمتها على حد تعبيرها، لتبسطها على ثوب فاتنة تتقاسم رونقه مع زهرة بنفسجية جميلة على شعرها الحريري وهي ترفع أصواتها العذبة عبر ملامح من سرور نحو الآتي الجميل، وتقول الفنانة بأنها أرادت من خلال تجسيدها لابنتها على هذه اللوحة، أن تجمع بين معاني الحب والأمومة وفرحة أُمٍّ بأُمِّها التي أنجبتها ولصديقة تفهمها، بل لرفيقة تكلِّمها، فالفتاة في تراثنا الوطني وفي التراث العالمي حسبما تقول الفنانة هي مرآة أمها وهي تجربة أمومة خرجت من رحمها، وهي أيضا زهرة تنجح في رسم بهجتها في كل حين.
وتنتقل بنا الفنانة إلى سحر الشمال الجزائري، حين تبرع في نقل حديث تراثي شيق يجمع نساء عاصميات في لوحة جميلة، يعلوهن اللون الأبيض للحايك، حيث تبرز ملامحهن الجميلة من قطعة قماش بيضاء يغطين بها نصف الوجه، فبينما تقص العيون الجميلة حكاية الأصالة والتميز، تحاكي الحواجب شكل القمر حين يعلن عن بداية شهر جديد بتحوله إلى هلال يقول بأن هناك دائما بداية ممكنة لحياة أجمل، كما تأخذنا الفنانة في نزهة عبر أزقة القصبة نحو تاريخنا العميق الذي يحتفي بخصوصيته ويضع بصمته العالمية الأنيقة وهي تفوح أصالة وجمالا، أما عن لوحة القصبة العليا، فتقول الفنانة بأنها اختارت منظرا يطل على المدينة والبحر لأنها أرادات أن تترجم الحوار الصامت بين السماء والمدينة والبحر.
لوحات تحكي عن المدينة النبيلة
ومن جديد تعود بنا ماريا إلى عمق الصحراء، حين تدهشنا ببراعتها في محاكاة أصالة لها خصوصيتها عبر أربع لوحات بمختلف الأحجام تحكي عن المدينة النبيلة المتفردة بجمالها وألقها، حيث تقول بأنها اختارت مدينة غرداية لأنها مدينة بلغت الألفية وهي فريدة من نوعها في العالم، حتى أنها صنفت من التراث العالمي من قبل اليونيسكو، مضيفة بأن المدينة جذبتها من ناحية طبيعتها الفذة وكذلك طريقة عمرانها الذي يرتكز على مواد طبيعية صديقة للبيئة، بل لأنها مبنية من طرف الشعب وعلى طابع توارثوه أبا عن جد أذهل جميع المهندسين المعمارييين في العالم، إذ أن الشعب المزابي قد تمكّن من بناء مدينته الفريدة دون أن يرتكز على مخطط معماري محدد مسبقا، ولذلك تبقى هذه المدينة أصيلة لأنها استطاعت الحفاظ على نوعية البناء ذاته منذ آلاف السنين وسط صحراء متلألئة الرمال، ولا شك بأن من أطلق عليها جوهرة الصحراء لم يكن مخطئا.
وتقول الفنانة بأنها بدأت تهتم بالصحراء منذ أن قرأت كتابا لكاتب روسي يدعىIvanov
كتب عن حياة التوارق بالتفصيل، كما أنها قرأت رواية عن توارق الصحراء الجزائرية لكاتب اسباني يدعى Vazquez Figueroa ولد بالجزائر من عائلة اسبانية وعاش بين توارق في الصحراء الغربية، وهو ما حثها على البحث عن جمال الصحراء وأهلها لتجعل منها موضوعا جذابا للوحاتها الفنية.
جميلة ميهوبي.