ثقافة المسافات

 

كتب / رضا محمد حنه
امين مركز فارسكور
لحزب الحرية المصري
و محرر في جريدة دمياط اليوم و موقع الجمهورية اليوم

أتت الدراساتِ، بإنَّ أكبر مُسبِّب للحوادث بعد السرعة والانشغالِ هو عدمُ ترْك مسافةٍ كافيةٍ بين السيارات و بعضها البعض
ان الاقترابُ الشَّديدُ يجعل من يقود السيارة يُفقِدُ القدرةَ على السَّيطرة، ولا يُعطيه فرصة للتصرف في أيِّ موقف طارئ

وفي الأماكن العامة، يُنصَح دائمًا بترْك مسافةٍ بيننا وبين الآخرينَ؛ فربما أصابونا بعدوى أو بمرض أو نشلونا أو ضايقونا بأي تصرف

ومثله الاقترابُ الشديدُ من المشكلة؛ فهو مُشِلٌّ للحركةِ، ومُضعِفٌ للتَّفكير

وحتى في عالَم الطبيعة، فإنَّ الاقترابَ الشَّديد يؤذي، ويحُول بيننا وبين تلمُّس الجمال
انرؤيتنا للبحر عن بُعد أجملُ بكثير من غوصِنا فيه، ولو سافرْتَ للقمر الذي تغنَّى به الشعراءُ وهامَ به الكُتَّابُ فلن ترى إلَّا حجارةً ومساحاتٍ خالية صماء ميتيه

ولو اقتربَتِ الشَّمسُ قليلًا لاحترقْنا، والمصباحُ يحرِقُ الفراشةَ إنْ لامسَت سطحَه، والبحرُ لو استمرَّ في حالة مَدٍّ دائمة لغرقْنا

إن الاقترابُ الشَّديد من البشر -كما أكَّدَ علماءُ الاتصال- يولِّد توتُّراتٍ ومَللًا قالت الدراسات ان أكثر الناس توتراً هم أصحاب الوظائف التي يكون فيها التعامل مع الناس تعاملاً مباشرا.

لا تحتكّ بشكل دائم مع البشر؛ فهو أدْعى لحِفْظ الودِّ، وزرْع المهابة

لا تضرِبْ حصارًا عاطفيًّا على مَن تُحبُّ؛ حتى لا تخسرَه بكثرة الاتصالاتِ والرسائل
لا تلغِ المسافةَ باسْمِ الحُبِّ أو الاهتمام أو المسئولية

ارسِم حدودَك بوضوح وبصراحة للآخرينَ, بيِّن لهم ما يُعجبُكَ ومالا يُعجِبُكَ، حدِّد مواعيدَ الاتصال، وحدِّد الأمورَ التي لا تفضِّل الحديثَ عنها, ارسِم حدودًا تبين بها ما تحبه و ما تكرهه

و لو تأمَّلنا في طبيعة و طريقة عمل زووم الكاميرا؛ فالاقترابُ الشَّديد لا يُظهِر جمالَ الصُّورة، بل ربما لا يبيِّن ملامحها وفوق هذا يوضِّح نقاطَ الضَّعف ومواطنَ القُبح، كما أنَّ الابتعادَ الشَّديد أيضًا يضيِّع الملامح تمامًا، ويلغي مواطنَ الجمال فيها

دخولُكَ مع البشر دون ترْك مسافاتٍ يشتِّتك ويُربِكُ حياتَكَ ويولِّد التوترَ بينكم و ربما الكراهية

وفي المقابل

احترِمْ حدودَ الآخرينَ ومسافاتِهم؛ لا تقترِب ما لم يسمَحوا، ولا تجعل من نفسِكَ استثناءً دون غيرِك من البشر عن طريق الترجّي أو الاستعطافِ أو اللجوء إلى المغالطات أو الأحتكام إليها

يقول أحدهم :

«الحبُّ هو ذكاءُ المسافة.
ألّا تقتربَ كثيرًا فتُلغي اللهفةَ، ولا تبتعِدَ طويلًا فتُنسى. ألّا تضعَ حطبَكَ دفعةً واحدةً في موقِد مَن تُحبُّ؛ أنْ تُبقيه مشتعلًا بتحريكِكَ الحطبَ، ليس أكثر، دون أنْ يلمَحَ الآخرُ يدَكَ المحرّكة لمشاعِره ومسار قدره. لا حبَّ يتغذَّى مِن الحرمان وحدَه، بل بتناوُب الوصْل والبِعاد، كما في التنفُّس. إنها حركةُ شهيقٍ وزفير، يحتاج إليهما الحبُّ لتفرغ وتمتلئ مجددًا رئتاه،كلَوْحٍ رُخاميٍّ يحملُه عمودان إنْ قربْتَهُما كثيرًا اختلَّ التوازن، وإنْ باعدْتَهما كثيرًا هوى اللوحُ. إنه فنُّ المسافة ».

وأذكى البشرِ هو مَن يُتقِن فنَّ إدارة المسافات يعرف مَتي يَقتربُ، ويعرف مَتي يبتعدُ،

وقد أكَّد هذا المفهومَ عالِم الاتصال الإنسانيِّ (إدوارد هول) بقوله: «إنَّ إدراك المسافة والمحافظة عليها مسألة مُهمة لإبقاء الودِّ والاحترام المتبادل في العلاقاتِ ما بين الأشخاص. ونفقِد علاقتَنا بالآخرينَ عندما نخطئ في احتساب تلك المسافة».

لا تقعْ في خطأ اقتحام المسافاتِ وتجاوُز الحدود؛ حتى تنعمَ بحياة سعيدة ملؤها حبٌّ وطيب التواصُل واحترام وتقدير ممَّن حولكَ، ولْتعمَل على وضْع المسافاتِ والحواجز والأسوار؛ فقليلٌ من المسافاتِ والحواجز ستجعلُكَ تشعُر بقيمتِكَ وكيانِكَ، وستسعَدُ معها بالحياة، وستحسُّ بإنسانيتِكَ وكيانِكَ.

إنَّ مِن أكثر أسباب فشل العلاقاتِ، إلغاء المسافاتِ؛ اعتقادًا مِنّا أنَّ هذا أفضلُ لتطوير العلاقة وتحسينها، إلَّا أنَّ العكسَ هو الصحيحُ، فالمساحة الشخصية التي تحيط بالفرد يعتبِرُها مِلكًا له، وغالبًا ما يصيبُ البعضَ حالةٌ من الذُّعر حالما يتخطى آخرونَ تلك المساحةَ.

البشرُ رائعون جميلون ما لم نقتربْ منهم والمشكلة ليسَت فيهم، بل لاننا اقتربْنا أكثرَ، ولاننا لم نفهَم أنَّ البشر طُبِعوا على النقص وعدم الكمال، ونحن مَن يتحمَّل وزر المشاعر السلبية التي تكونَت بعد الاقتراب الشديد منهم، وسمحْنا لأنفسِنا بالوصول لما لا يجبُ الوصول إليه، وكشْف ما كان يجبُ أنْ يُستَر, إنَّ التفتيش في الصناديق المغلقة ربما يوصلنا لاكتشاف مالا يسرُّنا رؤيتُه، وفتْحَ الستائر ربما جعلَك تُبصِر مناظر لم تكن مُضطرًّا إلى كشْف قبحِها
لا تغُص كثيرًا في محيطاتِ مَن حولَكَ؛ فأغلبُ الظَّنِّ أنكَ لن تُخرِجَ جواهرَ ودُرَرًا، بل ستخرج بعيوبًا ونواقصَ و اضطرابات

وإدارة المسافاتِ حكمة ونعمة عظيمة لمن تمكَّن منها، والجهلُ بها غفلةٌ، ومَن حُرِمَها فقد خسِرَ الكثيرَ
لا تبتعِدْ عن الدُّنيا بالترهُّب؛ فلا رهبانيةَ في الإسلام، ولا تقتربْ منها بالشَّهواتِ فإنها منافيخُ النَّار.

لا تقتربْ كثيرًا فتملَّكَ الناسُ، ولا تبتعِد كثيرًا فينْسَوْكَ أو يجهلوكَ. لا تقتربْ من ذاتِكَ أكثر فتُصابُ بالغرور، ولا تبتعِد عنها كثيرًا فتشعُرَ بالضآلة والدونية.

لكي يبقى الجميلُ جميلًا لا تقترِبْ منه كثيرًا

البعضُ أجملُ من بعيد، فحافِظْ على المسافة بينَكَ وبينهم.

و دمتم بألف صحة

Related posts

Leave a Comment